علل (حديث)
علم العلل أو علم علل الحديث هو علم يهتم بدراسة الأسباب الخفية التي تؤدي إلى ضعف الحديث، مع أن ظاهر الحديث الصحة والسلامة.
أهميته
قال الخطيب البغدادي: ((معرفة العلل أَجَلُّ أنواع علم الحديث)) [1]، وقال الإمام النووي : ((ومن أهم أنواع العلوم تحقيق معرفة الأحاديث النبويات، أعني: معرفة متونها: صحيحها وحسنها وضعيفها، متصلها ومرسلها ومنقطعها ومعضلها، ومقلوبها، ومشهورها وغريبها وعزيزها، ومتواترها وآحادها وأفرادها، معروفها وشاذها ومنكرها، ومعللها وموضوعها ومدرجها وناسخها ومنسوخها...)).[2] فعلماء الحديث قد اهتموا بالحديث النبوي الشريف عموماً ؛ لأنَّه المصدر التشريعي الثاني بعد القرآن الكريم، وقد اهتموا ببيان علل الأحاديث النبوية من حيث الخصوص ؛ لأنَّ بمعرفة العلل يعرف كلام النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم من غيره، وصحيح الحديث من ضعيفه، وصوابه من خطئه، قيل لعبد الله بن المبارك : هذه الأحاديث المصنوعة ؟ قال: ((تعيش لها الجهابذة)).[3] وقد ذكر الحاكم النيسابوري: ((أنَّ معرفة علل الحديث من أجَلِّ هذه العلوم)) [4] وقال : ((معرفة علل الحديث، وهو علم برأسه غير الصحيح والسقيم، والجرح والتعديل)).[5] وعلم العلل ممتد من مرحلة النقد الحديثي الذي ابتدأت بواكيره على أيدي كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث كان أبو بكر الصديق وعمر الفاروق ما يحتاطان[6] في قبول الأخبار، ويطلبان الشهادة على الحديث أحياناً ؛ من أجل تمييز الخطأ والوهم في الحديث النبوي، ثم اهتم العلماء به من بعد ؛ لئلا ينسب إلى السنة المطهرة شيء ليس منها خطأ. فعلم العلل له مزية خاصة، فهو كالميزان لبيان الخطأ من الصواب، والصحيح من المعوج، وقد اعتنى به أهل العلم قديماً وحديثاً، ولا يزال الباحثون يحققون وينشرون تلكم الثروة العظيمة التي دَوَّنَها لنا أولئك الأئمة العظام كعلي ابن المديني، وأحمد بن حنبل، والبخاري، والترمذي، وابن أبي حاتم، والدارقطني، وغيرهم.
ويزيد هذا العلم أهمية أنَّه من أشد العلوم غموضاً، فلا يدركه إلا من رُزِقَ سعة الرواية، وكان مع ذلك حاد الذهن، ثاقب الفهم، دقيق النظر، واسع المران، قال الحاكم : ((إنَّ الصحيح لا يعرف بروايته فقط، وإنَّما يُعرف بالفهم والحفظ وكثرة السماع، وليس لهذا النوع من العلم عون أكثر من مذاكرة أهل الفهم والمعرفة، ليظهر ما يخفى من علة الحديث، فإذا وُجد مثل هذه الأحاديث بالأسانيد الصحيحة غير مخرّجة في كتابي الإمامين البخاري ومسلم ما، لزم صاحب الحديث التنقير عن علته، ومذاكرة أهل المعرفة به لتظهر علّته)).[7]
موضوعه
ليس كل الأحاديث ظاهرها السلامة، ولا كل علة خفية، فمن الأحاديث علتها ظاهرة جلية، وهذه الأوصاف بحديث الضعيف ألصق، وليست من علم العلل في شيء، ومع ذلك وجدنا بعض العلماء قد أطلق العلة على الخفي منها والجلي، واستعمال اللفظ بمعناه العام من باب التوسع. أما الحديث المعل فهو ما اجتمع فيه ركنا العلة، وهذا لا يكون سوى في أحاديث الثقات ؛ لأنَّ حديث الضعيف خطأه بَيّن يتصدى له الناقد، وفق قواعد معلومة، أما أحاديث الثقات فهي موضوع علم العلل وميدانه بمعناه الدقيق، ولا يتصدى لها إلا جهابذة النقاد. وهذا النوع من النقد أوسع من الجرح والتعديل ؛ لأنَّه يواكب الثقة في حله وترحاله، وأحاديثه عن كل شيخ من شيوخه، ومتى ضبط ؟ ومتى نسي ؟ وكيف تحمّل ؟ وكيف أدَّى [8] ؟ إذن علم العلل يبحث عن أوهام الرواة الثقات، ويعمل على تمحيص أحاديثهم وتمييزها، وكشف ما يعتريها من خطأ، إذ ليس يسلم من الخطأ أحد.
هل نحتاج اليوم إلى علم العلل؟
لما رأى الناس ضعف المتأخرين والمعاصرين بهذا العلم، أدركوا أنَّ الحاجة إليه لا زالت قائمة، لاسيما أنَّ إعلال الأئمة للأحاديث مبنيٌّ على الاجتهاد وغلبة الظن، وباب الاجتهاد لا يحل لأحد غلقه [9]، وكذلك فإنَّ من واجب المتأخرين شرح كلام المتقدمين وبيان مرادهم في إعلالات الأحاديث، والترجيح عند الاختلاف.
ثمرة هذا العلم
لكل علم إذا استوى على سوقه ثمرة، وثمرة علم علل الحديث الرئيسة حفظ السنة، ففي حفظها صيانة لها، ونصيحة الدين، وتمييز ما قد يدخل على رواتها من الخطأ والوهم وكشف ما يعتريهم، وبيان الدخيل فيها، وبها تقوى الأحاديث السليمة ؛ لبـراءتها من العلل.[10]
تاريخه
تاريخه : يمكن جعل البداية الحقيقية لهذا العلم من مرحلة النقد الحديثي الذي ابتدأت بواكيره على أيدي كبار الصحابة كأبي بكر وعمر وعلي [11]، فهم أول من فتّش عن الرجال في الرواية، وبحثوا عن النقل في الأخبار. ثم تلقّى التابعون عن الصحابة نقد الأخبار وتمييز الروايات، كسعيد بن جبير، والشعبي، وابن سيرين، وفي هذا العصر ازدادت الحاجة إلى النقد، حيث طرأت أمور دعتهم إلى نقد المرويات وتمييزها، فقد كثرت الفتن، وتعددت الفرق، وكثر المشتغلون بعلم الحديث، واتسعت دائرتهم، وزادت أعداد حملة الآثار، ونشطوا للرحلة والطلب.. فدخل في ذلك من يحسن ومن لا يحسن، واختلفت أغراض الرواة، وتعددت مشاربهم.[12] وفي عصر تابعي التابعين زادت الأمور السالفة خطراً، فانتشرت البدع بشكل متزايد، وكثر موجودها، وطالت الأسانيد وكثر رجالها، ولم يبق الوهم مقتصراً على الحفظ والضبط، بل دخل في المصنفات والكتب. وذهب بعض الباحثين إلى أنَّ هذا المنهج تسارع ارتقاؤه، وتعاظم ازدهاره في فترة زمنية قصيرة، حصرها بين محمد بن سيرين المتوفى سنة (110 هـ) ويحيى بن معين المتوفى سنة (233 هـ) أي في خلال (120) سنة تقريباً، زاعماً أنَّ هذه الفترة تضاعفت فيها أعداد الأسانيد حتى وصلت إلى المليون. ولما دخل عصر التدوين كان هذا العلم أول ما عني به الأئمة.[13] وهذه المؤلفات تعطي لنا تصوراً مجملاً عن نشأة علم العلل، وأنَّه بدأ في عصر مبكر جداً مقارنة مع بقية علوم الحديث، وعلى الرغم من قدمِ نشأته فقد قوبل بقلة الاهتمام وضعف الجانب.
مؤسسوه وأئمته
أسهم الصحابة والتابعون من بعدهم في بناء صرح علم العلل، وتوالتِ اللَّبناتُ ترص بعضها بعضاً حتى غدا علماً لا يُستهان بجنابه، وقد مرّ علينا قبلُ أنَّ علم العلل بدأ بمحمد بن سيرين ؛ لأنَّه أول من اشتهر بالكلام في نقد الحديث، مروراً بالزهري الذي كان يملي على تلامذته أشياء في نقد الأحاديث وإعلالها. حتى استقر عند شعبة بن الحجاج، وقد جعل أحد الباحثين شعبة هو المؤسس الحقيقي لهذا العلم ؛ لأنَّ أحداً قبله لم يتكلم بالدقة والشمول الذينِ تكلم بهما شعبة ؛ ولأنَّ الحديث أصبح صناعة [14] وفناً على يديه، وهو أول من فتّش عن أمر المحدّثين.[15]
وقد شهد له من جاء بعده، قال الشافعي : ((لولا شعبة ما عُرف الحديث بالعراق))[16] وقال ابن رجب الحنبلي : ((وهو أول من وسّع الكلام في الجرح والتعديل، واتصال الأسانيد وانقطاعها، ونقّب عن دقائق علم العلل، وأئمة هذا الشأن بعده تبع له في هذا العلم)).[17] وقد أخذ عن شعبة يحيى بن سعيد القطان، وهو من أوائل من صنّف كتاباً في العلل كما ذكر ابن رجب [18]، وأخذ عنه أيضاً عبد الرحمان بن مهدي وهو من رجال هذا الفن، وعنهما أخذ يحيى بن معين وإليه تناهى علم العلل، وفيه قال أحمد : ((ها هنا رجل خَلَقه الله لهذا الشأن))[19]، وعلي بن المديني شيخ البخاري الذي قال عنه أبو حاتم : ((كان علي بن المديني عَلَماً في الناس في معرفة الحديث والعلل))[20]، وأحمد بن حنبل، ثم جاء بعدهم البخاري طبيب الحديث في علله، ومسلم الذي أماط اللثام عن علل خفية في أحاديث الثقات في كتابه «التمييز»، وأبو داود الذي قرر قاعدة عظيمة في هذا الباب مغزاها أنَّه قد يخرّج الحديث المعلول، ويسكت عن بيان علته بقوله : ((لأنَّه ضرر على العامة أنْ يكشف لهم كل ما كان من هذا الباب... ؛ لأنَّ علم العامة يقصر عن مثل هذا))[21]، وأبو زرعة الذي لمّ شتات هذا العلم مع أبي حاتم، وجمع علمهما عبد الرحمان ابن أبي حاتم في مصنّفه، وتلاهم جماعة منهم النسائي، والعقيلي، وابن عدي، والدارقطني ولم يأتِ بعدهم من برع فيه، وأخال ابن الجوزي قال قولته فيمن جاء بعدهم : ((قد قَلَّ من يفهم هذا بل عدم)).[22]
انظر أيضا
المصادر
- " الجامع لأخلاق الراوي " قبيل (1908)
- مقدمة شرحه لصحيح مسلم 1/6.
- أخرجه : ابن أبي حاتم في " الجرح والتعديل " 1/311 (المقدمة)، وابن عدي في " الكامل " 1/192، وذكره ابن الجوزي في مقدمة " الموضوعات " 1/46 ط.الفكر وعقب (22) ط. أضواء السلف.
- " معرفة علوم الحديث " : 119 ط.العلمية وعقب (289) ط. ابن حزم.
- " معرفة علوم الحديث " : 112 ط.العلمية وقبيل (270) ط.ابن حزم.
- في احتياط الصحابة، انظر : " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " لمصطفى السباعي : 75، وكان علي ابن أبي طالب يستحلف الراوي أحياناً، فقد روى الإمام أحمد في مسنده 1/2 عن علي، قال : ((كنت إذا سمعت من رسول الله حديثاً نفعني الله بما شاء منه، وإذا حدثني عنه غيري استحلفته))، قال الحافظ ابن حجر في " تهذيب التهذيب " 1/267- 268 : ((هذا حديث جيد الإسناد)).
- " معرفة علوم الحديث " : 59-60 ط.العلمية وعقب (103) ط. ابن حزم.
- انظر : " مقدمة شرح علل الترمذي " 1/28 ط.همام.
- انظر : " تحرير علوم الحديث " 2/649.
- انظر : " الخبر الثابت " : 125، و" العلة وأجناسها " : 8.
- انظر : " السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي " : 83-84.
- انظر : " العلة وأجناسها " : 26-27.
- انظر : " لمحات موجزة في أصول علل الحديث " :19-20، و" قواعد العلل وقرائن الترجيح " : 31-32، و" العلة وأجناسها " : 26-29.
- إنَّ هذا المصطلح ((صناعة الحديث)) مصطلح قديم، وُجد في العصر الذهبي لعلم العلل، أي في منتصف القرن الثالث، فقد قال مسلم في كتابه " التمييز " (102) : ((اعلم رحمك الله أنَّ صناعة الحديث، ومعرفة أسبابه من الصحيح والسقيم، إنَّما هي لأهل الحديث خاصة ؛ لأنَّهم الحّفاظ لروايات الناس، العارفون لها دون غيرهم...)).
- انظر : " اللباب في تهذيب الأنساب " 2/103، و" مقدمة شرح علل الترمذي " 1/30 ط.همام، و" العلة وأجناسها " : 30.
- " الجامع لأخلاق الراوي " (1522).
- " شرح علل الترمذي " 1/172 ط.عتر و1/448 ط. همام.
- انظر : " شرح علل الترمذي " 2/805 ط.عتر و2/892 ط.همام، و" جامع العلوم والحكم " 2/133 ط.العراقية و: 579-580 ط.ابن كثير.
- " تاريخ بغداد " 16/268 ط. الغرب.
- " تقدمة المعرفة " :264.
- " رسالة أبي داود إلى أهل مكة " : 50.
- " الموضوعات " 1/102 ط.الفكر.
- بوابة الإسلام