عرفة الشابي
عرفة الشابي الهذلي من بني صاهلة من هذيل خرج رهطة من الحجاز سنة 500 للهجرة وكما تسميه المراجع الأوروبية «أب إفريقية»، هو أمير وفقيه قائد عسكري مؤسس للحركة الشابية والإمارة الشابية، ولد سنة 1475 وتوفي سنة 1542، ووالده هو أحمد ابن مخلوف الشابي مؤسس الطريقة الشابية ويُعتبر أحد أقطاب التصوف في العهد الحفصي، لهذا لقبه صوفية المشرق بـ«زهرة أهل الغرب المُنعّمة». تلمذ له {أحمد الغوث التباسي التوزري} و {أحمد المقنع الحنّاشي} وكان ذلك بين سنتي 1473 و 1474 فبشّرا بطريقته الشابية في إفريقية الحفصية، وشيئاً فشيئاً أخذت قاعدة مُريديه تتسع في البوادي والمدن.
إخوته محمد الكبير/أبو الفضل/أبو الطيب/أبو الكرم/أبو السعود/أخ توفي صغيرا لم يذكر إسمه/ أم العز.
حياته
عاش (عرفة الشابي) أو (سيدي عرفة) كما شاع ذكره عند العامة، في فترة عصيبة من تاريخ إفريقية التي إستحكم فيها وهن الدولة الحفصية، إذ تقلص نفوذ الحسن الحفصي فلم يعد يشمل حُكمه إلا الشمال الغربي وبعض المدن، إحتد الخلاف بين الحضر والبدو، كثرت الإغارة والسلب وتغلغل الخوف في النفوس، وإزدحمت إفريقية بتمرد الأعراب وترددهم وانقضاضهم على المراكز الحضرية والسيطرة على الطرق للنهب. ونتج عن كل هذا اضطراب في الأمن وخلل في الدورة الاقتصادية ونقص في الأغذية، كما إنتشرت المجاعة والأوبئة التي كانت سببا في إفناء عدد كبير من الناس، فأتاح هذا لعملاقي البحر الأبيض المتوسط العثمانيين والإسبان أن يتنازعا السيطرة على تونس. في هذه الغمرة من الصراع ظهر عرفة الشابي في القيروان، كبطل قومي نافح عن ذاتية الأمة التونسية، فأعلن إستقلاله في القيروان وفي الوسط والجنوب الغربي وفي الشمال الغربي ومنطقة قسنطينة إلى جبال الأوراس ومنطقة وادي سوف، وإمتد نفوذه حتى مشارف مدينة تونس.
فكره
ورث مشيخة الطريقة عن أخيه الأكبر محمد الكبير سنة 1494، وبالرغم من أن أهمية الشيخ كانت تتمثل لدى أتباعه في سموّ تعاليمه الروحية وعُمق تأثير ولايته فيهم وقيادته للطريقة الشابية، فإن تميزه بالفقه كذلك لم يكن خفياً، ولهذا السبب شاع وصفه في المصادر المشرقية بالمالكي باعتباره أحد أقطاب المالكية في إفريقية، ونظراً إلى جهاده ضد المسيحيين وعملائهم في فترة حروب الإسترداد التي طغى فيها المدّ المسيحي على إفريقية فقد وُسم في بعض المصادر بالمرابط. برع {سيدي عرفة} في التصوف وفي العلوم العقلية والنقلية وأخلص لتاريخ إفريقية (تونس) وحضارتها فبدا بحقّ شخصية إفريقية فذة في القرن 16، فلم يكتفي بتلقين العلوم نقليّها وعقليّها، ولا خلص للإرشاد النظري المحض الذي لا صلة له بالواقع المعاش، ولا إنكب على التأليف، وإنما سخّر التدريس والإرشاد والتأليف لغايات عملية تتمثل في القضاء على أدواء المجتمع وعلله المستشرية، وفي إحياء الإسلام من جديد في نفوس البدو.
عرفة الشابي القائد العسكري
إن النشاط المميز لـسيدي عرفة في تواضعه وأسلوبه المُختلف عن سائر فقهاء عصره، جمع حوله القبائل الإفريقية (التونسية) التي ساد بينها التناحر والجهل، كطرود والهمامة ودريد والنمامشة وأولاد سعيد وأولاد بالليل وأولاد مهلهل والحراكته والنبايل والحنانشة وخمير ومرداس وبني بربار وورغة والذواودة وشارن وأولاد بوغانم والفراشيش، فألّف بينها وأقحمها في سياق التاريخ وأتاح لها أن تلعب دوراً نشيطاً في صياغة الأحداث بإفريقية بعد أن ظلّت طيلة خمسة قرون بمنأى عن هذا السياق، تعيش على الهامش وتمتهن الفوضى. كان الوضع العام في إفريقية مصدر قلق مستمر لعرفة الشابي مع ازدياد الصراع الاسباني العثماني وانهيار الدولة الحفصية، وزاد ما إرتكبه القرصان العثماني خير الدين بربروس في تونس سنة 1534 من عسف وقتل وما ٱرتكبته جيوش شارل الخامس في خطرة الإربعاء سنة 1535 من استباحة مدينة تونس في تغذية إحساسه القومي ليدخل بعدها في صراع مع أبو الحسن الحفصي وحلفائه الإسبان ومع العثمانيين حيث بادر بإعلان الجهاد وبالإستقلال بالقيروان لتكون مُنطلقاً لتحرير إفريقية من ردّة الحفصي وسيطرة الصليبيين وهيمنة الخلافة. وكان {سيدي عرفة} قد بلغ في تلك الفترة قوة تفوق قوة السلطان نفسه، إذ تأكد تفوذه في منطقة الساحل وفي وسط تونس وغربها وشمالها الغربي وجنوبها الغربي وفي منطقة قسنطينة إلى الأوراس وفي بلاد سوف، أما الأموال التي كانت بين يديه قبل تولّيه السلطة بالقيروان فكانت تفوق ميزانية السلطان الحفصي، وكان أتباعه يفوقون الـ 140 ألف مُريد.
معارك عرفة الشابي
واقعة باطن القرن ~ سبتمبر 1535 : إثر استقلال سيدي عرفة بالقيروان، بادر الحسن الحفصي بمهاجمة المدينة باعتبارها الخطر الداهم على عرشه المُهتزّ، فإتجه إلى القيروان في أشتات من الأعراب وفرق من المسيحيين ليوقع بخصمه ويحتل المدينة المتميزة بأهميتها الروحية والعسكرية، وسلك بجيشه إلى القيروان الطريق التي أصبحت تُعرف في العهد الحسيني بثنيّة المحلّة، وتمثّلها شبكة الفحص والجببينة والسبيخة فوصل إلى مكان يقع غربيّ القيروان ويبعد عنها 10 كلم يُسمى باطن القرن. ولما عسكر فاجأه سيدي عرفة ليلاً وأجهز عليه فإنهزم وأخذت أمواله ورجع إلى تونس مكسوراً. عندما فاجأ جيش الشابيّة الجيش الحفصي ليلاً وبدأ الالتحام أطلق جيش الشابية نداء (الله أكبر) فإنضمت أغلبية الجيش الحفصي لـسيدي عرفة وتمزقت القلة الباقية، ولاذ لحسن بالفرار إلى تونس تاركاً وراءه أمواله وعُدته. وقد تأكد بهزيمته هذه قيام الإمارة الشابيّة. إلاّ أن الحسن ظلّ عازماً على افتكاك القيروان، فحمل عليها ثلاث مرات لم يجن منها إلاّ الخيبة، إحداها سنة 1535 والثانية في بداية سنة 1536 والثالثة في جوان سنة 1540.
كان جيش سيدي عرفة مُكوناً من أهم القبائل الموالية (الحنانشة، النمامشة، دريد، الحراكتة، بني بربار، الهمامة، أولا سعيد..) وهو متفوق على جيش الحسن عدداً وحُسن تنظيم لكنه لا يختلف عنه من حيث الأسلحة، إلا أن جيش الحسن كان مكوّناً من جموع قوامها أشتات من الأعراب مُعتصمة بطمعها في أموال الحسن لا تنظيم لها ولا إيمان بهدف، ومن هذه الناحية فهي أشبه بالزّمايل المتحركة، ومن ثم فلا تخطيط يسندها ولا قيادة مؤمنة ومحنكة تُحدد لها سبل العمل العسكري المُنظم، وحسب المصادر الأوروبة فقد ضمّ هذا الجيش كذلك فرقة مسيحية لا شأن لها.
أما جيش سيدي عرفة فكان مُحكم التنظيم، صُلب البناء، قوامه شباب يُمثل بانتسابه سائر أنحاء إفريقية وبإيمانه بتحرير البلاد درع الأمة التونسية الناشئة، وطليعة قيادة رشيدة مارست توعية الشباب مُدة طويلة وكلفت بتجذير القومية فيه دونما عياء. عندما قاد سيدي عرفة هذه المعركة كان عمره 64 عاماً قضى 42 سنة منها في تلك التوعية، وقد ساعده في قيادته العسكرية صفوة من أبناء الشابيّة في مقدمتهم إبناه أحمد الشابي ومحمد الزفزاف الذي سيُعرف فيما بعد لدى الأوروبيين بـ (لوثر الإفريقي) وابن أخيه {محمد بن أبي الطيّب} الذي تولّى الإمارة من بعده وقريبه محمد بنّور. وكان على رأس كل فرقة قبليّة في هذا الجيش قائد منها يخضع لأوامر القيادة العليا، وليس لهذا الجيش من هدف إلا الإجهاز على العدو، لا لمطمع يتملكه ولا لصبوة يسعى إليها ولكن لنصرة الدين وإنقاذ الوطن من ردّة الحفصي وصليبيّة الإسبان وتربّص العثمانيين.
و حين وجد {سيدي عرفة} الفرصة سانحة لدخول في مواجهة ضد الأتراك، إنقضّ على الكتيبة العثمانية المتمركزة في القيروان منذ أوت 1534 وأجهز عليها، فأرسل أتراك الساحل بنجدة إلا أن أهالي القيروان إعترضوا طريقها وقتلوا نصفها وفرّ باقيها هائمين لتتلقفهم الأعراب.
واقعة المنستير ~ 12 نوفمبر 1540 : وفّق {الحسن} بعد إلحاح طويل في إقناع الإسبان بالقتال معه ضد {سيدي عرفة}، فجمع عدداً كبيراً من الأعراب وقادهم جميعاً إلى حربه، وقد إنضمّ له الفيلق الإسباني المرابط بالمنستير، وفي الطريق إلى القيروان فاجأه سيدي عرفة في مكان يتوسط المنستير وجمّال عند الوردانين والساحلين، ويبعد عن جمّال والمنستير نحو 10 كلم، ودارت حرب ضارية إستمرّت يوماً كاملاً من التاسعة صباحاً إلى الغروب فكانت فاصلة بين الطرفة. كان عدد جيش الحسن يتراوح بين الـ 100 ألف والـ 60 ألف من بينهم 7 أو 8 آلاف فارس، لكنه كان أشبه بالزّمايل منه بالجيش المدرب المُنظبط، لغلبة الفوضى عليه وتكاثر عدده بالنساء والأطفال الذين كانوا يُرافقونه بدون جدوى، أما الجيش الإسباني المرافق فكان لا يتجاوز الألفين في حوزتهم البنادق والمدافع، في حين كان عدد جيش سيدي عرفة من الفرسان 22 ألفاً ومن المشاة 15 ألفاً ومن حاملي الأسلحة النارية 600، ويقود هذا الجش أحمد بن عرفة بدلاً من والده الذي بلغ من العُمر آنذاك إحدى وسبعين سنة، يُساعده أخو محمد الزفزاف وابن عمه محمد بن أبي الطيب ومملوك إسباني، ويقود فرقة مكوّنة من مرتزقة أتراك وأوروبيين، والمتخصصة في استعمال الأسلحة النارية. والملاحظ أن {أحمد الشابي} استعان بهذين القائدين الأوروبيين وبهذه الفرقة من المرتزقة المحدودة العدد التي أقحمها في جيشه لحذقهم استعمال الأسلحة العصرية من بنادق ومدافع، لأنه كان يعرف أن الحرب ضد حلفاء الحسن من المسيحيين لن تكون لصالحه إذا لم يعتمد نفس الأسلحة التي يعتمدونها.
فلمّا إلتقى الجيشان بادر الحسن بالهجوم إلا أن نداء (الله أكبر) الذي دوّى من حناجر جيش الشابيّة مزّق صفوفه وإنقلب الأعراب المُرافقون له عليه وإنضموا لجيش عدوّه. وإزداد أمر الحسن سوأً حين وقع صُحبة البقية من جيشه في كمين نصبه له خصمه وذلك باختفاء 14 ألف فارس في غابة زيتون قرب الوردانين إنقضّوا عليه في الوقت المناسب، فإنفضت من حوله هذه البقية وهرب. أما الجيش الإسباني فقد إرتد هو كذلك على أعقابه بعد أن قاتل بشراسة وتقهقر إلى المنستير في ظلّ حماية فرقة يقودها {لويس دي ريجون}، وكانت الفرقة المكونة من الأتراك والمسيحيين القدامى من جيش الشابيّة هي المكلفة من طرف أحمد الشابي بمقاتلة الجيش الإسباني، ولم تنفك تتعقبها حتى المنستير.
مراجع
- عرفة الشابي: رائد النضال القومي في العهد الحفصي
- أضواء على الطريقة الشابيّة الشاذلية: عبد الباقي مفتاح
- بوابة تونس