فتح إفريقية
الفتوحات الإسلامية الأولى
فتوح إفريقية
لما أتمّ عمرو بن العاص فتح مصر على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب؛ ودان له أهلوها من القبط والروم بالطاعة والجزية التفت إلى برقة يدعوها إلى الله، ومنع أذى من بها من الروم عن مصر. فسيّر إليها جنداً بقيادة أمير جيوشه عقبة بن نافع الفهري، فواقعهم بها ودخلها صلحا[1][2]؛ ثم قصد زويلة فاستولى عليها وبثّ منها سراياه في بقيّة البلاد. وهكذا فتحت بلاد إفريقية بعد مصر.
خروج عمرو بن العاص لفتح إفريقية
خرج عمرو بن العاص سنة 23 هـ [643 م] من مصر[3] في جيش كثيف وعدَّة حسنة لمناجزة إفريقية ومناهضة من بها من الروم فاجتاز برقة ثم قصد طرابلس فاتحاً حتى بلغ عاصمتها، فعسكر بالقبّة التي على الشرق من شرقيّها. ونصب عليها الحصار شهراً كاملا وهو لا يقدر عليها لمناعتها ويقظة الروم الذين يتولُون الدفاع عنها، فجعل يصابرهم ويرقب غرّتهم حتى أخرج ذات يوم طليعة عليها رجل من من بني مدلج[4] متنكرين في صورة صيّادين، فمضوا إلى غرب المدينة، وهناك اشتد عليهم البحر ولم يكن عليها سور من هذه الناحية؛ فساروا على الضفّة، ومن يراهم يخالهم من أهل المدينة. وكانت سفن الروم شارعة في مراسيها قبالة البيوت، فعلم المدلجي أن المأتى لا يكون إلا منها ساعة الجزر. فانتظروا انحساز الماء ثم دخلوا المديئة حتى توضّلوا إلى الكنيسة، أين يقف جنود المسلمين خلف الأسوار، فكبّروا تكبيرة واحدة دوت لها الآفاق وأفزعت الروم ولم يجدوا ما يقيهم من فزعهم غير سفنهم فأسرعوا إليها.
أما عمرو بن العاص فإنه حين سمع التكبير دفع جنوده على الأبواب ففتحوها، ولم يفلت منهم أحد إلا من فرّ ولاذ بمراكب العدٌو. فكان فتحاً مبيناً ينذر الروم بساعة انقراض تسلّطهم على إفريقية والمغرب.
وذكر المؤرخون أن عمراً ندب أثناء حصار طرابلس بُسر بن أبي أرطأة من الجند لغزو ودّان، فاستولى عليها صلحاً. ثم إن أهلها نقضوه بعد أن انصرف عنهم. وسار عمرو من طرابلس إلى جبال نفوسة وكانوا متنصّرين، فاستولى عليها بعد معارك عنيفة. ثم أخذ يتأهب إلى دخول إفريقية. فجاءه كتاب من عمر بن الخطاب يأمره بان يكف عنها ويرجع بالجنود إلى مصر، وذلك لان معظم الجيوش الإسلامية كانت منهمكة في بلاد المشرق بتقويض دولتي الروم والفرس؛ وهو يخشى توريط جنوده في إفريقية دون أن يتمكن من إنجادهم، فلبّى عمرو الأمر وترك حامية في طرابلس تكفي لردٌ الغارة عليها، وعاد من فوره إلى مصر.
ولما توفقت الجنود الإسلامية في الشام والعراق وقضت فيهما على جنود الفرس والروم، وذهب الصدع الذي نزل بالمسلمين بمقتل عمر بن الخطاب (قتله أبو لؤلؤة غلام المغيرة بن شعبة انتقاماً منه للفرس)؛ وذلك بولاية عثمان بن عفان الخلافة، تجدّد العزم على فتح إفريقية. فكتب عثمان إلى عمرو بن العاص باتخاذ الأهبة وإعداد العدّة لذلك. وقلّد أخاه من الرضاع عبد الله بن سعد بن أبي سرح ولاية الجنود. وبعد سنتين من خلافته سرّح هذا القائد إلى إفريقية.
خروج عبد الله بن أبي سرح لفتح إفريقية
خرج عبد الله بن سعد من الفسطاط إلى إفريقية في عشرين الفا أواخر سنة 29 هـ (649 م) ودخلها أوائل سنة 30 هـ (650 م) ومعه أكابر الصحابة وفقهائهم. منهم : عبد الله بن نافع بن عبد القيس، وعبد الله بن نافع بن الحصين، ومعبد بن العباس بن عبد المطلب، ومروان بن الحكم، وأخوه الحارث بن الحكم، وعبيد الله بن عمرء وعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق؛ وعبد الله ابن عمرو بن العاص، وعبد الله بن الزبير، والمِسُوّر بن مخرمة بن نوفل، وعبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وعبد الله بن عمر بن الخطاب، وأخوه عاصم بن عمرء وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن جعفر، وأبو ذؤيب ويلد بن خالد الهذلي الشاعرء وعبد الله بن مسعود وبسر بن أبي أرطأة العامري، ومن إليهم من الجلّة. وكان خروجهم في هذا الجيش لمن أقطع الأدلّة على اهتمام الصدر الأوّل من الإسلام بهذا الجانب من المتسع العربي، واعتبارهم إياه كجزء حيويّ من بلادهم كما يعتبرون مصر وسوريا والعراق. وأمر عثمان لعبد الله بن سعد حين أخرجه إلى إفريقية أن يكون له خمس الخمس نفلا من الغنيمة.
سارت هذه الحملة في طريقها ولم تجد نصباً ولا كيدا إلى أن هبطت أرض إفريقية من ناحية قابس، فحاصرتها أياماً ثم تخلفت عنها وتوغلت في البلاد إلى أن اصطدمت بعساكر الوم ووقعت لها معها وقائع كان الفوز فيها للمسلمين. ثم انتقلت إلى سبيطلة، وكانت يومئذ قصبة نوميدية؛ عليها الأمير غريغوار (البطريق الرومي غريغوار)، المنشقٌ على قرطاجنة، فجرت بينه وبين عبد الله مخابرات طويلة انتهت بالحرب ومقتل غريغوار في حكاية مشهورة. ثم استولى المسلمون على سبيطلة، وكان جند الروم على ما أثبته المؤرخون 120،000 مقاتل.[5] ثم تقدم المسلمون إلى قفصة وكان أكثريّة أهاليها من البربر والروم يعتصمون بالحصون، فداخلهم الرعب بعد وقائع طفيفة وبعثوا إلى عبد الله يطلبون منه الصلح، فصالحهم مغ بقيّة البلاد على جزية معيّنة 2.520.000 دينار، وزنها 300 قنطاراً من الذهب[6]، (مصادر الأخرى تذكر ألفي ألف دينار وخسمانة ألف دينار).[7]
وسيّر عبد الله بن الزبير بخبر الفتح إلى المدينة. وقسم ما أفاء الله مع الغنائم على الجنود، وأضفى لنفسه ما نفله إياه أمير المؤمئين (خمس الخمس) وأرسل أربعة الأخماس الباقية مع ابن وثيمة النصري إلى المدينة. لكن هذا الصفيّ الذي كان يأخذه رسول الله ﷺ في غزواته أحدث لغطأ بين الجنود، وتقولاّ في ابن سعد، ولم تطب به نفوسهم، فسيّروا وفداً بإنكار ما فعله عبد الله إلى عثمان. وحين عرضوا عليه الأمر قال لهم : «ويلكم أنا نفلته وأمرت له بذلك. فإن رضيتم فقد جاز، وإن سخطتم فهو ردّ». فأجابوه وكان في جوابهم أثر من الأنانية. قالوا: إنا نسخطه؛ فسكت عثمان قليلا ثم قال، تفادياً من الانشقاق: «إذن فهو ردّ». وكتب إلى عبد الله بن سعد بردّ ما أخذء وأمره باستصلاحهم، ولما رأوا تساهل عثمان أبوا إلا عزل عبد الله وقالوا: نحن تأبى أن يتأمّر علينا هذا الرجل! وليس كبيراً أن يحدث ذلك في جند يتألف من علية القوم يتنازعهم الاعتداد بالنفس والشفوف.
ولما بلغ خبرهم عثمان كتب إلى عبد الله بن سعد بالعزل، وأمره أن يستخلف على إفريقية رجلاً ممن يرضاه، ويرضاه الجند، وأمر بقسمة الخمس الذي نفله إياه. فامتثل عبد الله لذلك وخرج من إفريقية بعد أن أقام بها سنة وشهرين. واستتبَّ له الأمر وأغزى الأندلس عبد الله بن نافع بن عبد القيس وعبد الله ابن الحصين في مراكب، بإشارة من عثمان. وروى الإمام الطبري من خبرهما أنهما ناوشاها من برّها وبحرها ثم عادا فائزين. وقبل رجوع عبد الله بن سعد بن أبي سرح إلى المدينة، عيّن عبد الله بن نافع بن عبد القيس خلفاً له على إفريقية سنة 33 هـ (653) ثم لحق مصر. وقد استشهد من أكابر رجال هذه الحملة معبد بن العباس والشاعر أبو ذؤيب.
انتكاث أهل إفريقية وخروج المسلمين منها
وحين علم الأفارقة يما حدث لعبد الله لم يحفظوا عهدهم، بل نقضوه وأبوا أن يعطوا الخراج الذي صالحوا عليه. فدعا عبد الله بن نافع رؤساءهم وجمعهم وقال: إنكم صالحتمونا على أن نأخذ منكم في كل حول 300 قنطار من الذهب جزية مثلما أعطيتم عبد الله بن سعد، فقالوا: ليس عندنا مال نعطيكه، فأما ما كان بين أيدينا في الأول فقد افتدينا به أنفسنا، وإنما لك أن تاخذ منا ما كان من عطائنا كل سنة لملكنا. فلما رأى عبد الله إصرارهم على الامتناع والإخلال بشروط الصلح، أمر بحبسهم إلى أن يؤدُوا إليه ماعليهم . فبعث المسجونون إلى قومهم يحرّضونهم، فأقبلوا صاخبين ساخطين، فكسّروا أبواب السجن وأطلقوا المسجونين. ولا شكٌ أن التصلب الذي بلغ حده الأقصى من الجانبين كان نذير سوء لهم جميعاء فقد نشبت الثورة وكان عدد المسلمين غير كاف لإخمادها، ففضل عبد الله بن نافع النجاة بمن معه على الهلاك. وترك البلاد يعسف فيها الثوار من الأفارقة. وكان المسلمون يومئذ في شغل شاغل عنها بإطفاء الفتنة المشتعلة في المشرق التي أودت بحياة أمير المؤمنين الثاني عثمان بن عفان، وما أعقبته من مشاكل بشأن إقرار الخلافة وفضٌ المنازعات التي تلتها.
استئناف الحملة الثانية لفتح إفريقية
لم تنطف تلك الفتنة التي استعرت في المشرق من أجل الخلافة، إلا لما انعقدت البيعة لمعاوية بن أبي سفيان، شقيق أم حبيبة إحدى أمّهات المؤمنين، بعد اغتيال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سنة 40 هـ (660 م) (اغتاله عبد الرحمن بن ملجم الحروري عقب مؤامرة سياسية عقدت لذلك)، وتسليم الحسن السبط فيها. عند ذلك توجّهت الأنظار لتجديد البعث إلى إفريقية بعد أن تعطّل طوال عهد الانشقاق الذي استمرٌ ثماني سنين، ولم يتفرع له معاوية إلا حين توّطدت له الخلافة. فقلّد ولاية مصر لمعاوية بن حديج السكوني في سنة 46 هـ (666 م).
وكان السكوني من أشدّ أنصار بني آمية واقواهم عزماً وأوصاه معاوية بالحزم بإتمام أمر إفريقية. ولما قدم مصر سرح (والي برقة) عقبة بن نافع لتمهيد إفريقية واختبار أحوالها، فخرج إليها في تلك السنة على طريق سرت ومعه من القواد المعدودين بسر بن أبي أرطأة وشريك بن سمي واستخلف على برقة زهير بن قيس البلوي، وسار في تعبئة صغيرة مؤلفة من 400 فارس و 400 بعير
عليها 800 قربة ام إلى غدامس حتى قدم ودّان؛ وكانت نقضت الصلح، ففتحها وأخذ من أهلها جزاء كان صالحهم عليه بسر في خروجه المتقدم مع عمرو بن العاص، ثم قصد جرمة قصبة فزان، قطع إليها المسافة من ودان في ثمان ليال فلما دنا منها بعث إلى أهلها ينذرهم ويدعوهم أن يرجعوا إلى الإسلام وكانوا قد ارتدوا عنه. فأجابوه إلى ذلك وجنحوا إلى السلم؛ فحاسنهم، وتجنب مضايقتهم في بلدهم، فأنزل عسكره على بعد ستة أميال ثم تحوّل عنهم إلى قصور فزان فحط عليها إلى أن أسلمت وخلف فيهم من يعلمهم أحكام دينهم. ثم مضى إلى جاوان وهو قصر عظيم على رأس المفازة فوق جبل عر مضى إليه في خمس عشرة ليلة. فضرب عليه الحصار شهراً كاملا دون أن يصيب منه مثلاً. فعدل عنه مؤقتا، ومضى إلى قصور كوراف فاستولى عليها قصراً قصراً، وفرض على أهلها جزاء لما أبوا الإسلام. ثم عاد إلى قصر جاوان فخرّبه. ولم يعرض له ليوهم أهلّه بأنه لا يريدهم. ومضى إلى سبيله مسير ثلاثة أيام في سبسب قفر لا ماء فيه حتى أدركهم العطش وكاد يهلكهم، فتزل بعسكره وصلّى بهم صلاة الاستسقاء، فاستجيب لهم في تلك الساعة، فقد أبصر عقبة فرسه يضرب بحافرة الأرض حتى كشف لهم عن صفا به نزيز فصاح عقبة في الجند أن احتفروا في هذا المكان. فاحتفروا في موضع النزيز فظهر منه نيع غزير، فشربوا منه وملأوا قربهم ووقاهم الله بذلك شر العطش.
ثم شدّوا رحالهم وعادوا إلى جاوان من غير طريقهم، فلم يشعر بهم أهلها حتى أكبوا عليهم بالليل وهم غارّون في منازلهم، فالتزموا الطاعة، وقبلوا الإسلام، فعفا عنهم عقبة وترك لهم من يفقههم في دينهم ثم كرّ راجعاً إلى زويلة. بعد أن دوخ الصحراء ورفع في ربوعها لواء الإسلام دون إسالة الدماء.
قدوم معاوية بن خديج مع الحملة الرابعة إلى فتح إفريقية
لما قفل عقبة بن نافع الفهري من حملته التمهيدية في الصحراء الواقعة بين طرابلس وإفريقية كتب رسالة بمشاهده فيها إلى معاوية بن حديج وهو بدوره بعثها إلى أمير المؤمنين معاوية ابن أبي سفيان، يرى رأيه فيها. فلما وقف عليها كتب إلى عامل مصر يأمره بالخروج إلى إفريقية، فخرج إليها في عشرة آلاف مقاتل،[8] ومعه من الأكابر عبد الله بن عمر بن الخطاب وعبد الله ابن الزبير وعبد الملك بن مروان ويحيى بن الحكم بن العاص، فسلك بهم الطريق التي خطّطها له عقبة إلى أن خرج إلى تكران وهي بلاد واقعة قرب سبيبة، فنزل بموضع يسمّى القرن من جبل وسلات؛ وهو بمثابة معقل طبيعي للجنود. فعسكر به، وابتنى منازل من الطين للجنود. وبعد أن استجم الراحة، بلغه أن قيصر الروم، لما علم بتوجّهه إلى إفريقية بعث أسطولاً عظيماً عليه 30.000 مقاتل مدداً لسبستيان عامله على قرطاجنة؛ فكان يتعقب المسلمين إلى أن بلغ ساحل سوسة.
فنهد معاوية بن حديج للقائهم عبد الله بن الزبير في الفرسان، فخرجوا يتسابقون إليهم حتى أشرفوا على القلعة وهي على شرف عال يتنظر منه إلى البحر وهي منه على نحو الي عشر ميلا فعرض لهم السكان بالتسليم والطاعة.
مصادر
- "فتوح مصر والمغرب"، books.rafed.net، ص 29، مؤرشف من الأصل في 27 أبريل 2021، اطلع عليه بتاريخ 22 سبتمبر 2021.
- "الكامل في التاريخ (ط. العلمية) - المكتبة الوقفية للكتب المصورة PDF"، waqfeya.net، مؤرشف من الأصل في 16 أغسطس 2021، اطلع عليه بتاريخ 22 سبتمبر 2021.
- "فتوح البلدان - المكتبة الوقفية للكتب المصورة PDF"، waqfeya.net، مؤرشف من الأصل في 15 أغسطس 2021، اطلع عليه بتاريخ 22 سبتمبر 2021.
- "فتوح مصر والمغرب"، books.rafed.net، ص 31، مؤرشف من الأصل في 27 أبريل 2021، اطلع عليه بتاريخ 22 سبتمبر 2021.
- "البيان المغرب في اختصار أخبار ملوك الأندلس والمغرب - المكتبة الوقفية للكتب المصورة PDF، ج 1 ص 5"، waqfeya.net، مؤرشف من الأصل في 03 مارس 2021، اطلع عليه بتاريخ 23 سبتمبر 2021.
- "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة - المكتبة الوقفية للكتب المصورة PDF، ج 1 ص 80"، waqfeya.net، مؤرشف من الأصل في 25 فبراير 2021، اطلع عليه بتاريخ 23 سبتمبر 2021.
- "فتوح البلدان - المكتبة الوقفية للكتب المصورة PDF، ص 227"، waqfeya.net، مؤرشف من الأصل في 15 أغسطس 2021، اطلع عليه بتاريخ 23 سبتمبر 2021.
- يذكر ابن عذاري (ج 1 ص 13) هذا الرقم نقلا عن إبراهيم بن القاسم، ولكنه ينسب الغزوة إلى عقبة.
- بوابة الإسلام
- بوابة الحرب
- بوابة الأديان