إنشاد ديني
الإنشاد الديني هو الفن الغنائي الذي يتناول موضوعات بدأ الإنشاد الديني في زمن النبيّ محمّد صلى الله عليه وسلم، حيث كان النبي محمد قد مرّ بنسوةٍ كُن يمدحنه ويقلن: نحنُ نسوةٌ من بني النجار يا حبّذا محمّدٌ من جارِ، واستمر أمر الإنشاد والمدح النبوي إلى يومنا هذا، حيث نجد الكثير من أحباب الله ورسوله ينشدون ويمتدحون النبيّ، ويشتمل الإنشاد الديني على ذكر الله والتهليل والتسبيح.
نشأته
وللإنشاد الديني قصة تؤكدها كتب التراث بأن بدايته كانت مع بداية الاذان حيث كان بلال المؤذن يجود فيها كل يوم خمس مرات، ويرتلها ترتيلاً حسنًا بصوت جميل جذَّاب، ومن هنا جاءت فكرة الأصوات الندية في التغني بالأشعار الإسلامية، ثم تطور الأمر على أيدي المؤذنين في الشام ومصر والعراق وغيرها من البلدان، وأصبح له قوالب متعددة وطرائق شتى.
وتؤكد كتب التراث الإسلامي أن بداية الإنشاد الديني كان على أيدي مجموعة من الصحابة(ر) في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم)، ثم مجموعة من التابعين. وكانت قصائد حسان بن ثابت، شاعر الرسول (صلى الله عليه وسلم)، هي الأساس للمنشدين. ثم تغنَّوا بقصائد أخرى لغيره من الشعراء الذين كتبوا في موضوعات متنوعة منها: الدعوة إلى عبادة الله الواحد، التمسك بالقيم الإسلامية وأداء الفرائض من صلاة، وزكاة، وحج إلى غير ذلك.
عهد الأموييين
في عهد الأمويون أصبح الإنشاد فنًّا له أصوله، وضوابطه، وقوالبه، وإيقاعاته. واشتهر أيام الدولة الأموية الكثير من المنشدين وكان أكثر المشتغلين بفن الإنشاد الديني وتلحين القصائد الدينية، إبراهيم بن المهدي وأخته عَليَّة، وأبو عيسى صالح، وعبد الله بن موسى الهادي، والمعتز وابنه عبد الله، وعبد الله بن محمد الأمين، وأبو عيسى بن المتوكل، وعبد الملك بن مروان، وغيرهم. كان عبد الملك بن مروان في دمشق يشجع الموسيقيين ورجال الفن. وكذلك كان الخليفة الواثق الذي كان يغني له إسحاق وإبراهيم الموصلي، وهما من أشهر الموسيقيين في العصر الأموي وعبد الرحمن بن الحكم الذي ذاع في عهده صيت الفتى «رزياب» وهو تلميذ إسحق الموصلي، وغيرهم كثيرون ممن اشتهروا بغناء وتلحين القصائد الدينية والاناشيد واشتهر المنشدين بشكل مميز في حلب على وجه الخصوص،[1][2] ومقدمة كتاب «مؤتمر الموسيقى العربية» للدكتور محمود أحمد الحفني.
عهد الفاطميين
في عهد الفاطميين تطور فن الإنشاد الديني لاهتمام الدولة بالاحتفالات المحتمعية. فهم أول من أقاموا الاحتفال برأس السنة الهجرية، وبليلة المولد النبوي الشريف، وليلة أول رجب، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة أول شعبان ونصفه، وغرة رمضان، ويوم الفطر، ويوم النحر، وهم الذين قاموا بالاحتفال بمولد أمير المؤمنين علي بن أبى طالب، ومولد ولديه الحسن والحسين والسيدة زينب، ويوم النيروز (شم النسيم) ويوم الغطاس وخميس العهد مشاركة للنصارى في شعورهم الديني. وكانت الأناشيد الدينية عصب هذه الاحتفالات مما دفع المنشدين لتطويرها بشكل غير مسبوق[3]
الدراويش
بدأت تظهر طوائف المتصوفة والدراويش وأصبح لكل فئة منشدوها وحواريوها، فقد ابتدع الدراويش لأنفسهم طريقة جديدة في التعبير وفي التقرب إلى الله، وهي مجالس الأذكار التي راح العامة من الناس يجتمعون لها، يرقصون ويطربون ويأكلون، وقد أدرك الدراويش أهمية الجانب الوجداني فأكدوا على مبدأ التأثير بالموسيقى، وادخلوها ضمن شعائرهم وكانت فلسفتهم أن صنيعهم هذا أدّى إلى إقبال الجماهير عليهم وجمع الناس حولهم.[4] وكان الدراويش اتباع جلال الدين الرومي من أشهر المنشدين إلى يومنا هذا.
اللطميات
ومن أشهر الإنشاد الديني عند الشيعة العرب هي اللطميات والتي بدأت بصورة القصيدة الفصيحة الكاملة، ومن ثم استخدم بعض الشعراء أوزان الموشحات، واستخدموا اللهجات الدارجة العراقية والبحرانية. حتى وصلتْ ليومنا هذا في القرن الواحد والعشرين لطريقة خاصة ومعجم منفرد وأوزان متنوعة مشتقة من بحور الشعر العربي الستة عشر أو مبتكرة من ناظميها، يطلق عليها روادها اصطلاحاً بالقصائد العزائية أو الأدب العزائي، ويتداولها الناس بأسماء شعبية عرفية:
- اللطمية (وهذا الاسم أكثر شياعاً في العراق والكويت).
- العزاء أو الشيلة (وهذان الاسمان أكثر شياعاً في البحرين والمنطقة الشرقية).
العصر الحديث
وفي بدايات القرن العشرون أصبح للإنشاد الديني أهمية كبرى، حيث تصدى لهذا اللون من الغناء كبار المشايخ والمنشدين الذين كانوا يحيون الليالي الرمضانية، والمناسبات الدينية، محبي هذا الفن حوله. وتطورت قوالب هذا الفن فأصبحت له أشكال متعددة وأسماء كثيرة تمجِّد الدين الحنيف، وتدعو لوحدة المسلمين، وتشجب الرذيلة، وتدعو إلى الفضيلة، وتمدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
وقد تأثر الإنشاد الحديث بالفضائيات المرئية والفيديو كليب وظهور قنوات متخصصة للإنشاد فانتج اناشيد وفرق انشادية المحدثة والمتحررة. فقد أصبح الإنشاد قريب الشبه بالغناء المتعارف عليه بعد أن فتح ذراعيه ليضم أطيافا مختلفة ومتنوعة من القوالب، وسمح بدخول العديد من الجنسيات والمرجعيات والأهداف المتباينة، خصوصا مع تزايد جماهيرية الغناء الديني على مستوى العالم الإسلامي. وفي بدايات القرن العشرون أصبح للإنشاد الديني أهمية كبرى، حيث تصدى لهذا اللون من الغناء كبار المشايخ والمنشدين الذين كانوا يحيون الليالي الرمضانية، والمناسبات الدينية، محبي هذا الفن حوله. وتطورت قوالب هذا الفن فأصبحت له أشكال متعددة وأسماء كثيرة تمجِّد الدين الحنيف، وتدعو لوحدة المسلمين، وتشجب الرذيلة، وتدعو إلى الفضيلة، وتمدح رسول الله وآل البيت. فأصبح الإنشاد الديني ينافس قنوات الأغاني وهناك فرق للإنشاد الديني، وهناك العديد من المنشدين استطاعوا ان يحفروا أسماءهم في سماء الفن أمثال الشيخ مشاري العفاسي، وأبي الجود وابي راتب وإبراهيم السعيد وأحمد الهاجري وعادل الكندري وأبو عبد الملك وأبو علي ومحمد الحسيان وسمير البشيري ويحيى حوى ومحمد العزاوي ومصطفى العزاوي وأسامة الصافي وأيمن الحلاق وأيمن رمضان وعبد الفتاح عوينات وعماد رامي وغيرهم كثيـــر، كما أن أصبحت كليبات الإنشاد الديني تستحوذ على أكبر نسبة مشاهدة من الوطن العربي.[5]
إن في هذا العصر الحديث تم تصنيف طبقات الصوت، وأصبح كلاً من المنشد والشاعر ملم بتلك الطبقات الصوتية، مما عاد على النشيد أثناء إلقائه بالفائدة وجذب المهتمين لذلك الفن الرآقي.
كما ظهرت تصنيفات فكرية للإنشاد أبرزها مدرسة الاختصاص أو كما تعرف باسم الفكر الانشادي الحديث التي تأسست في بداية القرن 21 الميلادي؛ من ابرز رواد هذه المدرسة الفكرية:
- عبد الرزاق بن عمر.
- آسيا سعادة.
- فتحي عشاب.
- سميرة فتاحين.
كما يجب الإشارة إلى أن بعض المنشدين من مدرسة التتابع يحسبون على هذه المدرسة الجديدة مثل: أبو الجود؛ مشاري العرادة؛ محمد الترمذي؛ أبو المجد الجزائري؛ وهم يؤمنون بوجوب الحفاظ على هوية الاناشيد كي لا تتميع؛ فلا يستعملون آلات العزف الموسيقية فيها مهما كانت ومهما كان مقدارها.
الحركات الانشادية العالمية:
هناك 3 حركات انشادية عالمية أساسية هي: حركة الفجر الاخضر / حركة المقام الجديد / حركة البراعم.
1 . حركة الفجر الاخضر الانشادية / [6]
حركة الفجر الأخضر هي حركة فكريّة فنيّة، تنادي بضرورة إحداث زلزال فكريّ على مستوى كلّ الإنشاديّين، حتّى يعيدوا النّظر في مشوارهم الفنّي، تقييماً فتقويما.
ظهرت الحركة في السّنوات القليلة الأولى للقرن الواحد والعشرين، على يد منشدين سابقين تجهل أسماؤهم، كما لا يُعرف تحديداً المنطقة الجغرافيّة التي انطلقت منها، وإن كانت بعض الآراء تشير إلى أروبّا كمهد أوّلي لهذه الحركة.
إتّخذت من الحروف التي تشكّل عبارة «الفجر الأخضر الإنشاديّة» اسماً مختصراً هو «فان»، وركّزت على الزّمن أيّما تركيز، موظّفة كلمة «الفجر»، رامـزة بها للزّمن الجديد القادم، مفضّلة اللّون الأخضر، باعتباره لون الأمل والطّبيعة الفطريّة في الإنسان.
نشأت حركة «فان» بسبب:
● الخلط بين فنّ الإنشاد وفنّ التّغريد: لم تكن بذور النّهضة الإنشاديّة فكريّة لدى كلّ الإنشاديّين، ممّا ولّد فوضى في استخدام المفاهيم، وطغيان الرّأي القائل باستعمال الآلات الموسيقيّة في الأنشودة، كمحاولة لإلحاقها بركب التطوّر، وبالتّالي تمّ الخلط بين فنّين من الفنون الغنائيّة المتشابهة، فن الإنشاد وفن التّغريد، وكما ساعد هذا في كسب جمهور جديد؛ ساهم في نفور الجمهور القديـم، وبالتّالي تطوّر الأمر إلى غاية مقاطعة المنشد أو الفِرقة.
إنّ إطلاق العنان لاستعمال آلات الموسيقى دون ضبط حقيقيّ لها، كان سببه فتاوى علماء الدّين الذين اجتهدوا فأباحوها للفِرق، التي لم تتردّد في إدخالها الواحدة بعد الأخرى، ممّا ميّع الأنشودة، وأخرجها من صورتها الحقيقيّة المألوفة، أي أنّهم عوض أن يساهموا في تطويرها؛ زادوا في تأخّرها، ولا لوم على رجال الدّين بتاتا، فهم أدّوا واجبهم بناء على اجتهاداتهم المأجورين عليها بإذن الله، فالمشكلة في الفِرق التي لم تتعب نفسها في البحث العلميّ، ولم يطرحوا السّؤال: ماذا سيحدث لو استعملنا آلات الموسيقى في الأنشودة ؟.
● سوء فهم مصطلح العالميّة: مفهوم «العالميّة» من المفاهيم الصّعبة، كونها تشبه مفهوما آخر له نفس حروفها، لذلك نجد كثيرا من الأوساط تنادي بفكرة العالميّة؛ لكنّها في حقيقة الأمر تفرض نمطها الخاصّ بها على العالم، أي أنّها تمارس العولمة، غير منتبهة للخطأ الذي وقعت فيه، فالعالميّة تقوم على اشتراك جميع البشريّة في قواسم يمكن استغلالها بهدف الوصول إلى حالة أكثر رفاهيّة ورخاء، أيّا كان ميدانه، عكس العولمة التي تفرض نمطاً وحيداً تحت أغطية رثّة، مهملة كلّ الأنماط الأخرى، حتّى ولو كانت سليمة.
● تفرّق الإنشاديّين : رأت حركة «فان» أن الإنشاديّين متفرّقون مهما بدا أنّهم في هيكل واحـد، إمّا طائفيّا أو مذهبيّا أو غير ذلك، وقواهـم مشتّتة حتّى في الفرقة الواحدة، وأرجعت ذلك إلى غياب قاعدة فكريّة صلبة تجمعهم، فهم في حالة شديدة من الضّعف الذي طالما انعكس على مصداقيّتهم كرموز لاستقطاب الجماهير المختلفة، وتواجد انشقاقات مجسّدة في تفكّك الفِرق، وتوقّف بعضها كليّة عن النّشاط.
ناهيك من غياب مفهوم «قوّة الجماعة»، فيركّزون على فرد أو فردين فقط من متوسّط عدد 8 أفراد، ويصل الأمر إلى استنزاف طاقة المشرف أو الفرديّ.
● غرق الإنشاديين في فوضى عارمة : تعتبر حركة «فان» أنّ كلّ الإنشاديّين غارقون في فوضى كبيرة متعدّدة الأبعاد، ليست لهم قيادة تجمعهم، لها من الفاعليّة ما تبرهن بها على المصداقيّة التي تتمتّع بها، وحتى تلك الاتّحادات أو الجمعيّات لا تعدو كونها أجسادا بلا أرواح، فهي إمّا صوريّة فقط؛ أو قليلة النّفوذ، أو محصورة في إقليم معيّن لا تخدم الفكرة الشّاملة.
و تصل الفوضى إلى عمق النّظام الإنشاديّ الثاني «الفرقة»، فتقسيم الأدوار الفنيّة شيء لا يتصوّره البعض، مقتصرين على الأدوار الإداريّة، من علاقات عامّة وتنظيم أوراق، فالصّورة الكليّة يكتنفها ضباب منهج الأدوار.
عندما تأسّست حركة «فان» أرادت تحقيق هدفين مهمّين هما :
1 - الرّقي بفن الإنشاد وإعطائه استقلاليّة شاملة تمهيدا لجعله علما شاملا قائما بذاته.
2 - إعادة الاعتبار لجميع المشتغلين في الإنشاد، وجعلهم فعّالين في القضايا العالميّة، يُؤخذ بآرائهم وأفكارهم النيّرة، ووضعهم في وفد أقطاب الفكر الإنسانيّ العالميّ.
تستند حركة «فان» إلى جملة من المبادئ تراها أسسًا ذات قيمة، من أجل النّهوض بفنّ الإنشاد هي :
● التّركيز على النوعيّة - الكميّة : رأت حركة «الفجر الأخضر» أنّ ما يحدث في السّاحــة الإنشاديّة من تحـوّلات بطيئة تؤثّر سلباً على النشيد والأنشودة، وأهمّ صورة من هذا التأثير السلبيّ تركيز مدرسة التّتابع على النّوع وإهمال الكمّ، هذا إن غربلنا فِرقها، وميّزنا الجيّد منها مهملين الفِرق الفوضويّة، التي لا رؤية واضحة لديها ولا استراتيجيّات، فهي تقلّد فقط، أمّا الجانب الإبداعيّ فلا حظّ لها فيه، ونلمس هذه النّقطة السلبيّة في قلّة الفِرق المستقطبة للجمهور، أي أنّ هناك فِرقا قليلة مقارنة بالطّبقات الجماهيريّة السّميكة وفئاتها العريضة، وبتعبير آخر لو حسبنا نسبة الجمهور إلى الفِرق؛ لوجدناها قيمة ضئيلة جدّا، ومنه نستطيع القول أنّ فِرق مدرسة التتابع في عزلة عن التّأثير المطلوب بالكميّة المطلوبة، ومتى كان ذاك في الواقع؛ انحرف الجمهور إلى فنون غنائيّة أخرى مخدّرة لوعي الشّعوب، ولتفادي هذا؛ وجب التّفكير في نظام إنشاديّ جديد يتفوّق على نظام الفِرقة، يكون ذا نجاعة كبيرة، يحقّق شيئين في وقت واحد، النوعيّة فالكميّة، طمعاً في اغتنام كلّ فرصة قد تحقّق مكاسب هامّة للإنشاد، مثل التّجنيد الإنشاديّ، الذي يُعتبر شريان حياة للسّاحة الإنشاديّة، يزوّدها بالدّم الجديد النقيّ لضمان بقائها في حالة انتعاش مستمرّ.
الفكرة التي قدّمتها حركة «فان» القائمة على مبدأ النوعيّة والكميّة في وقت واحد؛ تترك الباب مفتوحاً لكلّ ما يجسّد في الواقع من اجتهادات، خدمة لها من النّاحية الجوهريّة، فاسحة المجال للعقول وإبداعاتها الواسعة.
● إنتهاج فنّ الإنشاد أداة دعويّة : ممّا لا شكّ فيه أنّ النّشيد والأنشودة مرتبطان بالدّين الإسلامي وجوبا، فهما بعيدان كل البعد عن نقيض ذلك، ومواضيعهما متنوّعـة باختلاف حقولهمـا : العقائديّـة - المدائـح - الأفراح - الطفوليّات - النسويّات - الوطنيّات، وغنى حقولهما مرتبـط بشساعتهمـا، فلا يتركان مجالا يهمّ الإنسـان إلاّ يعالجاه، سواء في الدّنيا أو في الآخـرة، وتأمّل إن شئت تعريف فنّ الإنشاد، فقد أخذ على عاتقه فكرة الدّعوة إلى الله من خلال الجانب الفنّي، بعبارة أخرى اتّبع أسلوب الفن كطريق إلى دعوة الناس إلى الله، مثلما يتّبع الدّعاة أسلوب الدّروس أو المواعظ، وعندما نقول : الفن؛ فإنّنا نقول : الجمال، فالفن جميل في جوهره، جذّاب للنّفوس، والجاذبيّة هنا يجب استغلالها على أكمل وجــه، وتوظيفها بغية نيل المراد، إنّها الكيفيّة التي ينبغي دعوة الناس بها إلى عبادة إله واحد، نشراً للإسلام، عند الأفراد المنحرفين عنه مثل العصاة، أو معتنقي الأديان الأخرى.
و لدعوة شخص ما يُشترط توفّر رسالة موجّهة إليه، كذلك بالنسبة للجمهور الذي يُعدّ مستقبل الرّسائل التي يبثّها النّظام، فالدّعوة عند حركة فان تتمّ من خلال فنّ الإنشاد، بواسطة رسائل متنوّعة، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، المهمّ صبغها بالصّبغة الفنيّة، ولا صبغة أخرى، حتى تكون هناك استقلاليّة عن باقي الجماعات المختلفة، التي تتخذ عدّة طرق مطايا لتبليغ أفكارها إلى الغير.
● البحث العلميّ التطويريّ : ممّا لا يدعو مجالا للشكّ أنّ ما من شيء في هذه الدّنيا؛ إلاّ ويقوم على العلم حتى الحياة الآخرة، وهو اسم أو مصطلح يُطلق على جملة من المعارف الواسعة المنظّمة المقسّمة إلى مجموعة علوم، تمثّل نور الله لعباده، بها يُطوّر كلّ شيء.
عند تفحّصنا جيّداً لمدرسة التّتابع، نجد أنّها أوغلت في العمل الميداني على حساب الجانب النّظري، رغم أنّه من الجهل أن نفصل بين الإثنين، فالكتلة النظريّة تقوم أساساً على تطوير الأفكار، أي البحث الفكريّ المتواصل، أمّا الكتلة الميدانيّة فلا تعدو أن تكون موقعاً على الطبيعة، رحباً لتطبيق ما وصلت إليه العقول، وهذا لا يمنع من استغلالها محرّكاً فعّالاً حقيقيّا لإيجاد ما الإنشاد بحاجة إليه، أمّا التّركيز على الأفكار فقط وإهمال الميدان؛ فسلبيّ أيضا، لأنّ بحار أفكار دون تطبيقها؛ لا يعدو أن يكون مجرّد هلوسات في اللاّ محدود، وتحليق عشوائيّ ليس منه بدّ، ولهذا يجب أن يكمّل أحدهما الآخر، كطائر لا يطير إلاّ بجناحين، فمدرسة الأفكار لم تأتِ إلاّ من قاعدة الفجر الأخضر الإنشاديّة، تصحيحاً لما يحدث في العالم من تحوّلات وتطوّرات تخصّ فنّ الإنشاد، محمّلة بفكرة جوهريّة منطقيّة، تقول أنّه لا مجال للارتقاء بالأناشيد؛ إلاّ إذا ركّزنا على الجانب الفكريّ دون إهمال الميدان.
النظريّ لنا، نطوّر فيه ونؤسّس قواعدنا الفكريّة المأمونة، فهو الجوهر، أمّا الميداني فعبارة عن الشّكل الخارجيّ الذي يراه الجمهور، إنّه القالب الذي لا يكون سليماً إلاّ إذا سلم القلب.
● العالميّة : تركّز حركة «فان» على مبدأ العالميّة انطلاقاً من عالميّة الدّين الذي يدور في فلكه الإنشاد، وتقوم الفكرة أساساً على إهمال الحدود السياسيّة، باعتبارها مصدراً للتّقوقع الفكريّ وضيق الأفق، فالنشيد والأنشودة لا وطن لهما مثل الإسلام، ولذلك لا معنى للتّقسيمات المفتعلة بين البلدان، فتجزئة العالم لدول ودويلات؛ أمر لا يخـدم لا فن الإنشاد ولا المسلمين، بل يقيّـده ويعرقل تقدّمه، فقد تجد بلدانا لا يستطيع النشيد والأنشـودة الحياة فيها بشكل طبيعيّ، بسبب المناخ السياسـيّ والثّقافيّ السّـائد.
من هذا المنطلق؛ فإنّ الفكرة العليـا لا يمكن لها أن تتحقّق إلاّ إذا نُشرت ثقافة الإنشـاد، وعمّت أطراف المعمورة، وفي أثناء ذلك؛ يجب الاستيقاء من كل الفنون الغنائيّة الأخرى الموجودة في أنحاء هذه المعمورة، وتوظيف ما يلزم توظيفه من أجل الاستمرار والرّقي الدّائم، مثل الإيقاعات والمقامات ... إلخ، ممّا يُرى عامل الأهميّة فيه، وشموليّة الفن الرّاقي، تنشئ لنا بالضّرورة عدّة مدارس من تراكم عدّة أفكار متباينة، فلا داعي لأخذ موقف متزمّت منها أو مناصبتها العداء، بل يجب الانفتاح على جميع هذه الاختلافات، وتوظيف الإيجابيّات منها قصد الوصول إلى الكمال الإنشاديّ الملموس في الفكرة والتّطبيق.
إنّ الإنسان باعتباره اجتماعيّا؛ عليه أن يعيش في بيئة عالميّة، فأيّ أرض فيها إنسيّ ينبغي الوصول إليها، وإلاّ لما كان هذا العالم الواسع الأرجاء.
تأمّل إن شئت آيات القرآن الكريم، كلّها تحثّ على الانفتاح على الغير ونبذ الاعتزال السّلبيّ.
يختلف مفهوم «العالميّة» عن الشّموليّة الضيّقة لأسلوب فني محدّد، الذي يهمّش باقي الأساليب، فهذا لا يختلف عن مبدأ العولمة التّافه منطقيّا، ولذلك كان لمس معنى الزّلزال الفكريّ الذي تريد حركة فان إحداثه؛ غير متأتّ بجلاء إلاّ في هذه النقطة، فهو ضرورة إعادة النّظر في البناءات العقليّة للإنشاديّين، قصد إنتاج الجديد المطوّر، وليس الذي يعيد إلى الوراء، فإقصاء أفكار الآخرين عن تمثيل الدّور الإيجابي الفعّال، يُعتبر تقهقراً من النّوعيّة الممتازة
2 . حركة المقام الجديد /
حركة فكريّة فنيّة أخرى، لكنّها لا تنادي بزلزال فكريّ، بل تؤمن أنّ هزّات عقليّة خفيفة متوالية تكفي لإيقاظ الإنشاديّين من سباتهم الذي تولّد من مرور الزّمن، فهي تعارض مبدأ الزّلزال الذي تريد حركة فان إحداثه دفعة واحدة، لأنه قد يحدث فتناً وصراعات بين الإنشاديّين، والطّريقة السّليمة من منظورها هي ضرورة التّنبيه ببطء، ولهذا يمكن ملاحظة أنّ الذين ينتمون لهذه الحركة؛ أكثر جرأة واندفاعاً في اقتحام الوسط الفنيّ.
ظهرت حركة «المقام الجديد» متزامنة مع حركة «فان»، في السنوات الأربعة الأولى من القرن الواحد والعشرين، وتبلورت بسرعة متّخذة من مفهوم «التأقلم» مرتعاً خصباً لأفكارها، ولم تكن أبداً في يوم من الأيام فرعاً منشقّاً عن حركة «فان» مثلما اعتقده البعض، كما أنّ الذين ساهموا في تشييد بنائها ثلّة ممّن يعملون في الإعلام الإنشاديّ، بحكم تمتّعهم بقدرة فائقة على التجوّل بين مختلف الأفكار التي تزخر بها ساحة النشيد وميدان الأنشودة.
نشأت حركة «المقام الجديد» بسبب :
● الخلط بين فن الإنشاد وفن التّغريد : لاحظت هذه الحركة كنظيرتها أنّ هناك غياباً كليّاً لمجموعة القواعد التي تحفظ لفنّ الإنشاد ميزته، وشخصيّته التي ينفرد بها عن سائر الفنون الغنائيّة الأخرى، فرغبة اللّحاق بركب التطوّر فرض على الإنشاديّين إدخال آلات العزف بصورة لا مدروسة، فأصبح فنّ التّغريد جزءاً من الإنشاد، وهو في الأصل بعيد عنه، وأكّدت أنّ استمرار الوضع على ما هو عليه سوف يؤدّي إلى انقراض الإنشاد على مراحل زمنيّة طويلة، وقد تحدث فتن وصراعات من أطراف ستحاول إرجاع المياه إلى مجاريها بعد فوات الأوان، حين ستكون غالبيّة الناس مقتنعة بالأغاريد على أنّها أناشيد، حينئذ يكون من الصّعب جدّا إرشاد الجماهير وحتّى الإنشاديّين، وإعادة المفاهيم الصّحيحة إلى أذهانهم، لأنّهم سوف يكونون قد تلقّوا تنشئة طويلة على مرّ السّنين، من غير المعقول إعادة صياغتها من جديد بين عشيّة وضحاها، دون بذل تضحيات جسام، وربما أضحيات.
● انعدام الاتّصال والتّواصل بين الإنشاديّين : إنّ الإتّصال شيء ضروريّ بين كلّ العاملين في الميدان، فهو الحلقة الرّئيسة التي بها يُحقّق الهدف الكلّي، وفقدانها معناه حدوث شروخ وتشقّقات تهدّد بناء فنّ الإنشاد برمّته، أي أنّ الاتّحاد لا يتمّ إلاّ بالاتّصال بين صنّاع الأناشيد باختلاف مواقعهم، كذلك؛ بينهم من جهة، والجمهور من جهة ثانية.
و الإتّصال يتجلّى في عدّة مظاهر مفقودة، مثل القنوات المتخصّصة سواء السّمعيّة أو السّمعيّة البصريّة، أو مواقع إنترنت ... إلخ، وهذا الإتّصال الذي يفتقده النشيد والأنشودة ليس اتّصالا كلاسيكيّا، بل حركيّا يشمل آخر الإنتاجات الإنشاديّة المتنوّعة، المهرجانات، الملتقيات، النّدوات والأبحاث والدّراسات، إلى غير ذلك من المظاهر المشجّعة على إنشاء أجيال لا ينضب نبعها ولا يتعكّر.
● تفعيل العولمة ضد العالميّة : تعتقد حركة «المقام الجديد» أنّ ما يحدث في السّاحة الإنشاديّة موسوم بصبغة المحليّة، ومن تفطّنوا لهذا؛ أرادوا الخروج إلى العالميّة من أجل حصد نجاحات واسعة، ولكنّهم وقعوا في العولمة، أو بتعبير آخر عولموا محليّتهم، فبدل الانفتاح على العالم، وقبول الجيّد منه؛ فرضوا إنتاجهم، بصرف النّظر عن جودتـها، مقصين الجهات الأخـرى، وجاعلين عدّة طاقات على الهامش، رغم أنّها يمكن أن تساهم وبفاعليّة مشهودة في إنجاح فن الإنشاد، لأنّ الحقيقة الإنشاديّة يستحيل أن ينظر إليها شخص وحيد في هذا العالم بشساعته، وبالتّالي تختلف المساهمات وتتنوّع بتفاوت عقل كلّ فرد، وتتجسّد في مبادرات أساسها الأفعال ثمّ ردودها.
● انتشار الذّاتيّة الفنيّة : تُعتبر الذّاتية الفنيّة إحدى أهمّ الأخطار التي تهدّد الإنشاد، وهي الميل إلى إنشاديّ معيّن، أو نظام كالمنشد الفردانيّ أو الفِرقة أو الجهاز، جاعلة من الإخوة أعداء، والميل المشار إليه ليس لدى الجمهور، فهذا شيء جدّ طبيعيّ ولا يشكّل عائقا، أمّا لدى الإنشاديّين فالأمر يختلف، لأنّ المبادرة دائما في أياديهم، والمبادر الذي تفوح منه رائحة التّعصّب؛ لا يُنتظر منه ترجيح كفّة النّجاح مطلقا، ولا يستطيع بناء شيء قويّ من قاعدة ضعيفة، قولبتها رؤيته المجاليّة الضيّقة.
● شيوع النّزعات الشّاذّة : كان شيوع نزعات شاذّة عن الحقّ سببا آخر لقيام حركة المقام الجديد، فقد ظهرت أفكار خاطئة لا تخدم الصّالح الإنشاديّ العام، سواء سياسيّة أو فلسفيّة مثل الرّمزيّة والواقعيّة والوطنيّة ... إلخ.
إنّ هذه النّزعات أثّرت على النشيد والأنشودة، فكانت مثالا للفوارق غير المؤسّسة على قواعد صحيحة، فهي عنصريّة بالدّرجة الأولى، مشتّتة للجماعة العالميّة ذات الدّين الواحد، مستنزفة لطاقة الاتّحاد الشّامل، فاسدة لا يمكن تبنّيها عن عقل رشيد.
وضعت حركة «المقام الجديد» هدفين مهمّين سعت لتحقيقهما :
1 - الرقيّ بفن الإنشاد وجعله علماً قائماً بذاته، بعيداً عن كل التّأثيرات، أي وضعه في موقع يؤثّر ولا يتأثّر.
2 - تمهيد الطّريق شيئا فشيئا أمام الإنشاد حتّى يعمّ كلّ العالم.
تستند حركة «المقام الجديد» إلى مبادئ متعدّدة هي :
● التّركيز على قوّة الفعل : يقصد بالفعل «الفعل الإنشاديّ»، وقوّته هي درجة تأثيره على الجمهور، ويُشترط الدّين كنقطة أساسيّة، فالإسلام في منهجه المعتدل بكل نواحيه الاعتقادات والمعاملات والعبادات، فهو الشّامل لكلّ شيء.
و الارتباط بالله معناه الالتحام بالقوّة المطلقة سواء في نوعها أو في درجتها، ومنها قوّة التّأثير.
و يصل هذا المبدأ إلى درجة تتمّ فيها توجيه الجماهير إلى الأحسن ودفعهم عن الأسوء، أي جعل الإنشاديّ شخصيّة لها وزنها الاجتماعيّ وسمعتها العالميّة، فرداً يُسمع له حين يتكلّم، ويُنظر إليه حين يفعل، وتؤخذ مساعيه بكل أعين الاعتبار.
تعتقد حركة المقام الجديد أنّه كلّما كان الأثر عميقا زادت به قوّة الفعل، وبالتّالي اكتسب الصّدق الذي تهفو إليه كل نفس بشريّة، فإذا كانت فاعليّة الفرد في تقدّم بشروط صحيحة مدروسة؛ تمكّن من التّأثير على كـل الأحـداث العالميّة، وهنا يكون قد لعب دوره ببراعة في إرشاد العامّة إلى الخير مباشرة بفاعليّته المشهود له بها، فالفنّ موجّه للدّعوة أساساً، والدّاعية لا يمكن أن يؤثّر في النّاس إلاّ إذا كان فعّالا.
لا معنى لفرد يهمل فعالية فعله، فالفعل سيصدر لا محالة، دعه إذن ذا قيمة عالية، ولا تكن محدود الفكرة قصير النّظر، فأنت؛ أنت بفعلك، وكلّما كانت درجته في قيمة مرتفعة، كنت أنت.
● تفعيل التّوحيد الإنشاديّ بين الطّوائف والمذاهب الإسلاميّة المتقاربة : يندى الجبين لما لوحظ في السّاحة الإنشاديّة من تفرّق طائفيّ ومذهبيّ يحمل منهج التّناقض، وبالتّالي العداء بين الأطراف التي من المفروض أن تستظلّ تحت شجرة الأخوّة، وإذابة الجليد بينها هو حجر الزّاوية في اعتقاد حركة «المقام الجديد»، فالجوهر لديها موجود في عنصر الاتّفاق على الأساسيّات، أمّا ثانويّ القضايا؛ فلا تعير له طرفا، والإختلاف وإن كان ولا بدّ منه؛ فالأحسن ثمّ الأسلم أن يكون بعيداً عن الأمور التي تخرج من الملّة، وتلصق بصاحبها صفة الكفر.
لا يمكن مطلقا أن يكون هناك توحيد في الرّأي، شامل للجميع بنسبة كاملة، فهذا غير منطقي، لأنّ عقول الناس تختلف من واحد لآخر، حسب قدراتهم، ناهيك من أنّ التّباين في ذاته رحمة، تخفيفاً عن الخلق، ودفعاً للمشقّة الحاصلة في اتّباع رأي واحد لا يناسب الكلّ، لذلك نجد في العالم عدّة طوائف ومذاهب، لها قواسم مشتركة، وأرضيّة واحدة تحملها، ومنبعاً انبثقت منه.
تحاول حركة «المقام الجديد» تنمية فكرة نبذ الشّقاق بين أبناء الدّين الواحد، مقرّبة بين كلّ وجهات النّظر غير المتعصّبة لرأيها، رافضة تلك النّظرة الأحاديّة المتطرّفة، التي تهدّد أمّتنا بالشّتات فالزّوال.
على هذه القاعدة ترفض هذه الحركة التّفرقة بين فنّ الإنشاد لدى الطّوائف والمذاهب المتّفقة على أساس واحد، يضمن لها بقائها في حظيرة الإسلام، ما دامت تحترم كلّها الخطوط الحمراء في النّشيد والأنشودة، ساعية للارتقاء بهما إلى مستويات الجودة والإحسان، وبهذه المساهمة تكون قد شقّت طريقا مشتركا، يتعدّد سالكوه، تفعيلا منها للوحدة الحقيقيّة بين كلّ الطّوائف والمذاهب، وحدة يحقَّق بها وحدة الأمّة الإسلاميّة العالميّة.
● العالميّة الإنشاديّة : وهو المبدأ الثّالث لهذه الحركة الفنيّة العالميّة، إذ أنّها لا تقيّد نفسها بالعمل والنّشاط المحليّين في دائرة صغيرة؛ من فكرة تعتنقها تتمثّل في أنّ الحقيقة ليست محصورة في نطاق ضيّق، بل متجلّية في رقعة كبيرة مأهولة بالبشر اسمها العالم، وحتّى يتقوّى فن الإنشاد يجب أن يأخذ كل هذه الرّقعة الكبيرة ميداناً خصبا له، تمدّه بالموارد البشريّة اللاّزمة لقيامه وبقائه على قيد الحياة، وهؤلاء الأفراد هم الذين ينتجون الأفكار المحرّكة بشموليّتها لكلّ ضروريّ وكماليّ.
إنّ الإنشاديّ المنتمي فكريّا لهذه الحركة الفنيّة؛ يعلم أنّ العالم هو مجاله الفسيح الأرجاء، يأخذ منه ما يفيد الإنشاد، وبالتّالي يكون منطقة إشعاع فنيّ واحدة، غير مترفّع عن تلك الأقاليم الجغرافيّة المعزولة، ذات الكثافة السكّانيّة القليلة، التي يهملها البعض كونها بعيدة عن تفاعل الأحداث، فالعالم يؤخذ ككل، من دون ترك ولو جزء تحت أيّ ظرف، لأن الذي يقصي منطقة؛ إنّما يقصي جزءاً من الحضارة العالميّة الإنسانيّة، بما في ذلك إنتاجها الفنّيّ الطربيّ، الذي يساهم في ترقية الإنشاد بطريقة أو بأخرى.
إنّ عامل اللّغة عامل مهمّ لدى أفراد الحركة، فهم يعتبرونها وسيلة اتّصال بقيمة الحجر الكريم، فالشخص ينجذب إلى من يتحدّثون لغته، والأناشيد لا تقوم على اللّغة العربيّة وحدها كما يتصوّر البعض، بل تساهم فيها كل لغة باعتبارها مظهراً من مظاهر الحضارة، وما كانت لتنحصر في لغة وحيدة، فتلك عولمة وإن كان الأمر يأخذ اتّجاها آخر، إلاّ أن الفكرة الضيّقة تولّد الأضيق من الأفكار.
● اعتناق فكرة الدّعوة الفنيّة : تعتنق حركة «المقام الجديد» فكرة الدّعوة في حلّتها الفنيّة البحتة، بعيداً عن التّأثيرات المختلفة الأخرى، التي إن شابت الإنشاد غيّرت نكهته المميّزة.
و الدّعوة في فلسفة هذه الحركة هي إرشاد النّاس إلى القيمة الحقيقيّة للفن الغنائي الديني، المجهول لدى العامّة بسبب انعدام الاتّصال والتّواصل بين الإنشاديّين، وبذلك فإنّ القيم الرّشيدة تعتبر ضئيلة من المنظور الإجماليّ للفن.
إنّ القيم الرّشيدة لا يمكن إيصالها بسهولة إلى الجماهير غير المدركة لها، إلاّ إذا غُلّفت بقيم الجمال، وعُمل على غرسها في النّفوس غرساً، يصعب بعدها اقتلاعها منها، وتُفهم من السّياق العام عند البعض أنّ العمليّة تامّة سابقا، لكن ليس لها جذور متماسكة تحافظ على هذه القيم في النّفس البشريّة، فتكون العمليّة الثّانية تثبيتها متّخذة من الشّخصيّة حقلاً آمنا لها.
و لمّا كانت الدّعوة عامّة تتطلّب عنصر الحكمة؛ وجب إدخال هذه الأخيرة في الفنّ، متّخذة من العقل آلة إنتاجها، فالأهمّ دوما يُدرك بالمهمّ، ولا فوضى تقود إلى النّجاح، بقدر لا نظام منظّم يقود إلى الفشل.
إذن فتوظيف العقل في دعوة الجماهير إلى الحقّ ليس أمراً واجباً فحسب؛ بل لا مفرّ منه ولا ملاذ عنه، ولمّا كان العقل آلة فكريّة غير آمنة؛ اقترن نجاحه بالهدى المنزّل، الذي يحفظه من كلّ زيغ وضلال، بدلالة سمات المعرفة المرسلة التي تُعتبر أصدق أنواع المعارف.
حركة «البراعم» الانشادية /
حركة إنشاديّة عالميّة تسمّى «البراعم» وتُعرف أيضا باسم آخر هو «الصّفحة البيضاء» تقوم على ركيزة فكريّة، تتمثّل في الاهتمام بالأطفال أوّلا وقبل كلّ شيء، لتوفّر قدرة التّعلّم لديهم أكثر من الكبار، فالصّفحة البيضاء في عقل الطّفل يمكن كتابة أيّ شيء عليها.
للحركة المذكورة اعتقاد راسخ في أنّ ترقية فن الإنشاد لا يمكن أن يكون دون ترقية عقول أجياله المتعاقبة التي تحمله، وترقية الجيل لا تعطي ثماراً ناضجة النّضج المطلوب؛ إلاّ إذا اهتُمّ بالفرد منذ طفولته.
لقد ظهرت حركة «الصّفحة البيضاء» نهاية القرن العشرين الميلادي، أي قبل حركتي «فان» و «المقام الجديد»، لكنّها لم تستطع إثبات وجودها إلاّ بعد أن توفّرت عناصر ساعدت على إقامة هذه الحركات، وخاصّة تغيّر ملامح النّظام العالميّ بعد سقوط الاتّحاد السّوفياتيّ، وأفول الشّعارات الزّائفة المروّجة للجماعة المحليّة على حساب النظرة الشّاملة.
عند إلقاء نظرة على أسباب قيام هذه الحركة الإنشاديّة نجد :
● تأخّر فنّ الإنشاد : لاحظت حركة «البراعم» أنّ الإنشاد كظاهرة نفسيّة اجتماعيّة فنيّة يتخبّطه الضّعف، فهو لم يلقَ الاهتمام المطلوب الكافي على مرّ العصور بصفة عامّة، بسبب ظروف أحاطـت به، تنوّعت من تاريخيّة إلى اقتصاديّة إلى سياسيّة، إلى غير ذلك من العوامل التي عرقلت هذا الفن، فلم يلعب دوره كاملا في المجتمعات.
● استحسان المحليّة على العالميّة : إنّ النظام العالميّ السّائد إبّان نهايات القرن العشرين؛ أثّــر سلباً على الإنشاد، وليس هذا تسرّعاً في الحكم حين تعلم أنّ الكثير من الفِـرق أبـت تبنّي العالميّة، واقتصر نشاطها داخل حدود بلادها فقط، رافضة كلّ أشكال الخروج من القوقعة، بدعوى أنّ الإصلاح الذي تقوم به؛ يجب أن ينجح في محيطها أوّلا، ثمّ بعد ذلك يأتي التّفكير في إصلاح المحيط العالميّ.
و استحسان هذه النّظرة ليس إيجابيّا أبدا، فالفرق الإنشاديّة تكتفي بما لديها في محيطها من إيقاعات وأساليب، سيأتي يوم لا محالة ينظر فيه أفرادها إلى خارج دائرتهم، طال الزّمن أم قصر، بحكم حتميّة الرّؤية الموسّعة، أو يتعرّضون لغزو ثقافيّ من أطراف تؤمن بفكرة نشر أفكارها على مساحة جغرافيّة شاسعة، من نطاقات قوى لا محليّة.
● إنتشار الذّاتيّة الفنيّة : إنتشرت الذّاتيّة الفنيّة كمبدأ واسعاً بين عدّة فرق ومنشدين، إلى حدّ التّعصّب الأعمى، ممّا ساهم في عرقلة نموّ الإنشاد نموّا سليما، فالتّزمّت يجعل المتعصّب يتقبّل كل شيء من المتعصّب له، سواء كان إيجابيّا أو سلبيّا، ويلزمه الدّفاع المستميت عن جهته التي يميل نحوها مهما كانت الأفعال الصّادرة عنها، وكفى بهذه نقطة سلبيّة لها وبالها العظيم على الفن، إضافة إلى أنّ التعصّب لاسم ما؛ ينشئ أجيالا متصارعة، لا تنتج الجديد بالمقدار الذي تعيد به إعادة إنتاج القديم، لا يوجد في قاموسها مصطلح «الزّمن»، فلا تعيره أدنى اهتمام ... لأنّها ببساطة لا تعرفه.
● وجود صراع خفيّ بين الأجيال الإنشاديّة المتعاقبة : إكتشفت حركة «البراعم» ملامح صراع خفيّ بين الأجيال الإنشاديّة المتعاقبة، حتّى داخل المدرسة التّاريخيّة الواحـدة، وأرجعت السّبب الرّئيـس إلى العقليّة الضيّقة، خاصّة الزّمنيّ منها عند الأفراد، الذين يفتقرون لفكرة التطوّر الصّحيح المبني على الشّموليّة، والمقصود هنا أنّ هـؤلاء الأفراد لديهم سكون عقليّ، وهذا ما دفعهم إلى الانغلاق على أفكارهم انغلاقاً لا يسمح بقبول أفكار الآخرين، مهما قدّموا من براهين على صحّة اعتقاداتهم.
عقليّة السّتاتيكـا تمنع التّواصل مع الأطـراف الأخـرى إن لم نقل الإتّصال، وتتدرّج شيئـا فشيئـا نحو التّعصّب والتّطرّف، لتتوفّر لنا في النّهاية كتل متحاربة، كان من المفروض أن يؤلّف بينها الإنشاد.
يلخّص أصحاب هذه الحركة أهدافهم كلّها في نقطة واحدة هي إنشاء أجيال إنشاديّة عالميّة موحّدة، ذاتية القدرة.
و لكن للوصول إلى الهدف المشار إليه؛ هناك مبادئ تُعتمد في النشاط الفنّيّ مثل :
● التّركيز على الأطفال دون إهمالهم عند الكبر : تؤسّس حركة «البراعم» لفكرتها انطلاقا من عبارة أنّ الطفل يملك عقلا ذا صفحة بيضاء، نستطيع كتابة أيّ شيء عليها، فهو على الفطرة التي تمكّن مربّيه من توجيهه إلى أيّة وجهة مختارة، والإهتمام بالأطفال وتربيتهم تربية إنشاديّة سليمة؛ معناه في كلّ الأحوال إنشاء جيل عالميّ مولع بالأناشيد، موحّدون أفراده، يملكون قدرة ذاتيّة على ابتكار جيّد الأشياء، وصنع أحسن الظّروف.
إنّ الطّفل في حالته الخام يكون مفرغاً من الأحكام المسبقة، فطرته نقيّة من الشّوائب الأخلاقيّة، والتّراكمات الحياتيّة، مثله كمثل الذي يرى النّور لأوّل مرّة، والإعتناء بهؤلاء طريقة مثلى ليرتقي فنّ الإنشاد على أياديهم، بشرط أن تكون هناك استمراريّة في متابعة ما بعد مرحلة الطّفولة، لأنّهم سوف يصلون إلى مرحلة إنتاج الجديد، بعدما تمّ تدريبهم على أفضل السّبل والوسائل.
تسعى حركة «البراعم» من خلال تركيزها على الأطفال إلى بناء شخصيّة إنشاديّة سويّة، ذات أبعاد متّصلة بالنّشيد والأنشودة، من خلال وضع الطّفل في مناخ مشبع بثقافة الإنشاد، مع الحرص على وضع آلية متابعة حتّى داخل المنزل، بصنع روابط مع الأولياء، ولا سيّما الأشخاص المحبّبين إليه كالأمّ أو الأب أو الأخ أو الأخت، وهذا الحبّ العائليّ هو الأساس، باعتبار الأسرة أوّل مكان يترعرع فيه، وتأتي بعد ذلك المدرسة لتطوّر المعرفة وتوسّعها، فيتشكّل في ذهن الطفل فضاء علميّ، يُملأ بأصول النّشيد والأنشودة، ومع الوقت يزداد هذا الفضاء اتّساعاً، وبالتّالي يتقوّى عقله، وينتج أفكارا تساهم في دفع عجلة الإزدهار.
● اعتماد الوسط كموقع استراتيجي : يعتقد أصحاب حركة «البراعم» أنّ مجال الاعتدال والوسطيّة أفضل مجال على الإطلاق، فهو دون التطـرّف والتعصّـب، وفـوق الابتذال والتسيّب، وبالتّالي يكتسب موقـعاً استراتيجيّا تتجلّى فيه القوّة، كما في غيره الضّعف والهوان.
أمّا الوسط المقصود فهو المكان العام المعتدلة أفكاره بين هذا وذاك، ألا ترَ أنّ الإنسان يزداد صدره انشراحاً حين يتواجد في طقس معتدل وجميل ؟، بشمس دافئة وهواء منعش، وتراه في غير ذلك حين يكون في طقس متطرّف بارد أو حار ؟.
ألا ترَ أنّ الإنسان يبلغ أقصى قوّته حين يكون شابّا ؟، وهـو ضعيف حينما يكون طفلاً صغيرا، أو شيخاً هرما ؟.
إنّ السّير التصاقاً بالحائط الأيمن عمليّة هيّنة، والسّير التصاقا بالحائط الأيسر عمليّة يسيرة أيضا، أمّا محاولة المحافظة على مسار وسطيّ بين الحائطين أمر شاقّ على النّفس؛ كلّما استقرّت المسافة بينهما وبين المسار، ولهذا فالوسطيّة مشكلة يمكن للعقل أن يحلّها، طبعاً استناداً إلى الوحي، فهو الأداة التي يمكن بها وضع حدود نحصر فيها الاجتهادات التي يتوقّع أصحاب حركة «البراعم» نجاحها.
و الوسط يوحي بفكرة الحقّ، وغيره الباطل الآخذ صورتي التعصّب والتّسيّب، والحقّ كما تسعى إليه هذه الحركة شمولي، تتمسّك برؤيته رؤية موسّعة قدر المستطاع، حتّى لا تغيب أجزاء منه، فيتعذّر الاستمساك به، ويكون بعدئذ الوقوع فيما ورائه.
● اتّخاذ مفهوم «طهارة الدّرب» قاعدة حيويّة : تتحرّك حركة «البراعم» في إطار أنشطتها على قاعدة توفّر لها استمراريّة البقاء، فالدّرب محصور في الفنّ فقط، في صورته الإنشاديّة، دون التدخّل في مناحي أخرى، ولا حتّى في فنون مشابهة له، كالإنشاد المسرحيّ أو المسرح الإنشاديّ.
لقد بات من ضروريّات المحافظة على الدّعوة الفنيّة لدى أتباع هذه الحركة؛ التزام السّير في خطّ محدّد ودقيق، لما قد ينجرّ عن عكسه من ضياع الشّخصيّة المستقلّة، وظهور أفكار متناقضة لا تخدم الهدف الأسمى.
إنّ «طهارة الدّرب» شعار استقلاليّ، تسعى حركة «البراعم» من اعتماده كمبدأ؛ إلى صرف جميع القوى المتوفّرة في مجال واحد، توظّف فيه كلّ الجهود، فتكون حياة للإنشاد، وفضاء في اتّساع حثيث، تسهل فيه الحركة والمناورة.
● إلغاء كل الحواجز التي تفرّق وحدة الأمّة الإسلاميّة : تهتمّ هذه الحركة الفكريّة الفنيّة بتنشئة الطّفل على فكرة جوهريّة، تتجاوز الحواجز التي تمزّق شمل العالم الإسلاميّ، فهي لا تقيم أدنى وزن لقيم العرق واللّون والجنسيّة ... إلخ، لأنّها تعتبر أنّ الوحدة الشّاملة بين كل أبناء الدّين الواحد أولويّة قصوى، تتوفّر فيها قوّة عظمى، هي في الواقع مشتّتة بتشتّت الأفكار المتعصّبة للمذهب أو للطّائفة أو للوطن أو للقوميّة، وإنّه من غير الممكن جمع أفراد الأمّة إلاّ بالتّخلّص من كلّ ما يقسّمهم إلى مجموعات تحت مسمّيات كثيرة، والتّخلّص في الأصل ما يكون أيضا إلاّ بلفظ الفكرة المحرّكة للفعل والقول، إعتماداً على قانون عالم الأفكار يسبق عالم اللاّ أفكار
البنية الانشادية في مطلع القرن 21 :
يقوم الإنشاد في مدرسة الافكار على خمسة أسس؛ استغلال التّكوين الشّخصيّ، استخدام الوظيفة المشغولة، توظيف المواهب، استقطاب أكبر عدد من الجمهور، احترافيّة الأفراد، ويتّضح للرّائي من أوّل وهلة أنّ كلّ هذه الأسس لها من القوّة ما يكفي لجعل فنّ الإنشاد في المقدّمة، يتربّع على عرش الفنون الغنائيّة، ولا سيّما الدّينيّة منها.
للإنشاديّ تكوين شخصيّ يتألّف من دراسته بكافّة أنواعها، ولا يختلف الأمر إن كانت هذه الدّراسة نظاميّة أو حرّة كإجراء تربّصات وتكوينات مختلفة، يدعّم بها جعبته الفكريّة، فالعلم نور يُستضاء به، ولو كان إنشاديّ ما ليس له تكوين فهو شخص أمّيّ، قد لا يعرف حتّى كيف يكتب اسمه، ولو حلّلنا هذه النّقطة جيّدا؛ لوجدناه يفتقر للتّربية العقليّة المتطوّرة، التي لا تُمنح إلاّ بالدّراسة والتّكوين، أي بعبارة أخرى؛ تربيته العقليّة ضعيفة جدّا، بدائيّة مثل الشّعوب الهمجية التي ما زالت تعيش في المناطق النّائية من العالم، المنغلقين على أنفسهم، وما يقال عن التّربية العقليّة يقال عن أنواع أخرى تلتصق بها كالتّربية النّفسيّة على سبيل المثال.
تنتقل المعرفة المتراكمة إلى الأجيال عن طريق التّربية، ولا سيّما في مظهر التّمدرس، حيث تخضع المنظومة التّربويّة لمناهج خاصّة يُضمن بها مستقبل النّشء القادم، والواقف عن كثب يتسنّى له رؤية أثر ذلك على ثقافة الفرد.
إنّ ما تقوم به المدرسة يتعدّى نقل خبرات الأجيال السّابقة إلى تطوير القدرات الخاصّة للمتمدرس، من أجل الوصول إلى أقصى حالات العطاء الفكريّ وأرقى أنواع التّصرّف مع المتغيّرات الحياتيّة، لأنّه لا فائدة ترجى من زاد معرفيّ ضخم دون آلة تعرف بالضّبط الأصول السّليمة للتّصرّف المثالي فيه.
يعيش الإنشاديّ في هذا العالم كفرد فعّال يقدّم خدمات للجماعة العالميّة، فهو كائن مصلح إصلاحاً مقابل مال أو مجّانا، ولكنّ الأهمّ قبل المهمّ هو نيّته السّليمة ذات النّظرة الاستعلائيّة تجاه المتاع الزّائل.
قد يكون الإنشاديّ من أصحاب الوظائف الحرّة، كما يكون منتمياً إلى قطاع الوظيف العموميّ، وسواء كان الأمر هذا أو ذاك؛ فإنّ الجماعة العالميّة تحتاجه عضوا فيها، له دور يقوم به، يُستثمر بناء على فلسفة الارتقاء الحيويّ للإفادة العامّة والخاصّة.
و الوظيفة الحرّة قد تكون في الإنشاد، أي أنّ الإنشاديّ يشتغل في ميدان الدّعوة الفنيّة مقابل مال يضعه في حاجته، ولا يتعارض ذلك مع خصوصيّة الدّعوة، فالنيّة محلّها القلب، ولكنّه قد يُفتن، ولكلّ خيار فتنه الخاصّة به.
تصنع الوظيفة مجالا حيويّا للإنشاد، بما تحتوي عليه من امتيازات وعلاقات مع الأفراد والجماعات، مع الصّبغة التي تطبعها، إضافة إلى أسرار المنهج الوظيفيّ الذي قد يكون مفتاحا لعدّة اهتمامات إنشاديّة.
و لا ضير إذا زاوج الفرد بين الوظيفة الحرّة وغير الحرّة، واتّسع في ذلك اتّساعا يملك به أسباب الثّروة والجاه، ممّا سيجعله فائزاً في الدّارين إذا أعطى كلّ شيء حقّه، ولم تلهه الفانية على حساب الباقية.
إنّ جعل مجال الوظيفة مجالاً مرناً ذا مساحات متعدّدة، خطوة استراتيجيّة في الثّقافة الأمنيّة، فهو بهذا يبعد ينابيع التّمويل عن خطر التّجفيف، وينشئ لنفسه استقلاليّة معيشيّة تنأى بغناها عن كلّ ضغط يؤثّر على قراراته وتصرّفاته في الدّعوة.
هناك من الوظائف ما هو حسّاس بطبيعته، ما يفرض على الإنشاديّ التّواجد في الصّفّ الثالث، حيث يتحدّد المرتع بما يشكّله الضّغط الأيديولوجي للجماعة المسيطرة.
لكلّ شخص مهما كان جنسه أو طبيعته موهبة منحها الله له، يجب عليه توظيفها فيما يُرضي الله أوّلا، ثمّ فيما يرى لها من أولويّة ثانيا، ويكون التّوظيف بالتّعرّف على الحدود التي تصل إليها، على كافّة النّطاقات، وتقترن الموهبة بالجانب العاطفيّ، وهي بهذا تشكّل قوّة، حيث يعمل الحبّ مع الإرادة على تشكيل استثناء من نوع خاصّ يختلف عن باقي الأسس السّابقة.
و توصف الموهبة بأنّهـا ما ييسّر الله له عباده، فهذا إنشاديّ له موهبة كتابـة الشّعر، والآخـر له موهبة التّلحيـن، الثّالث مبدع في الصّحافة، ولو طلبنا من الأوّل أن يلحّن لنا نشيدة؛ لما استطــاع نظريّا، وإن تمّ له ما أراد؛ فبعد جهد جهيد وتعب شديد، ولنغمض أعيننا عن مستوى المنتوج لأنّه لا سبيل للمقارنة.
قس على هذا المثال ما تراه أمامك، ولعلّ هذا من أهمّ المشاكل التي يتخبّط فيها الإنشاد، إذ تعمّ الفوضى السّاحة الفنيّة كنتيجة لعدم إدراك الموهبة جيّدا، بما في ذلك ما يمكن أن تصل إليه.
نرى في الميــدان جليّا إمكانيّة تمتّع الإنشاديّ بأكثر من موهبة، ولا يمكن إدخـال ذلك إلاّ في مفهـوم «تعبيد الطّريق»، إذ يتمّ التّركيز أفضليّا على الموهبة الأكثر نصاعة، حتّى لا يتعارض ذلك مع الاختصاص، فالموهبة ما هي سوى منحة منحها الله، ومنح الله تختلف درجاتها من فرد لآخر، وما ظهر أنّه تحكّم في ميدان ما؛ يغطّيه تحكّم أكبر حجما من إنشاديّ آخر في نفس الميدان.
إنّ النّهــوض بفنّ الإنشـاد وطبعه بالطّبعة الاستقلاليّة يفرض توظيف مواهــب الإنشاديّين واستعداداتهـم الفطريّـة ومهاراتهم الشّخصيّة والجماعيّة، في إطار فكر استراتيجيّ، أو يتحوّل كلّ شيء إلى فوضى، تتصارع فيها المواهب بدل أن تتكامل، وتضرب الجهود بعضها بعضا بدل أن تتضافر، ورحم الله امرؤ عرف قدره.
باعتبار الإنشاد دعوة فنيّة، فهو سيستقطب مدعوّين له، ومن مصلحته استقطاب أكبر عدد ممكن من النّاس، إنّه عالميّ موجّه للجميع، وليس محصوراً في فئة أو طبقة، يعالج مشاكلهم لا يخرج عن الشّرع الحكيم، الذي يرسم له طريقه كاملة إلى آخر ثانية في الحياة.
و الاستقطاب يعني في أكثر حالاته التّنافس مع فنون غنائيّة أخرى، تنافساً يصل إلى درجة الصّراع، وخاصّة مع الفنون الغنائيّة الهدّامة، التي تخدّر عقول الأفراد والجماعات، وتقضي على الوعي الاجتماعيّ، وبغضّ النّظر عن الباعث لهذا التّخريب المبرمج؛ فإنّ الفكر الإنشاديّ الحديث يجعل من التّغلغل وسط الجماهير صلب اهتماماته، تغلغلاً لا تذوب معه الشّخصيّة الفنيّة، أو تتميّع، كما لا يعني هذا التّغلغل إفساداً من نوع آخر، كاستعمال اللّغات العاميّة على حساب اللّغات الأكاديميّة الفصيحة، بحجّة أنّها الأقرب إلى الجمهور، لهو عذر أقبح من ذنب.
يستحيـل على الإنشاديّ أن يستقطب الجمهور إذا لم يكن محترفا الاحترافيّة اللاّزمة لفنّه، التي يجب أن يبنيهـا العلم وليست الأسبقيّة في الميدان، لأنّ الزّمن لا يصنع محترفاً إذا كان جاهلا، ولو أمضى 100 عام من عمره في السّاحة.
و لا معنى للاحترافيّة في غياب الاختصاص، فالإنشاديّ غير المختصّ في جانب معيّن؛ ليس محترفا في أيّ جانب، إذ الاحترافيّة ترتبط بالعلم، والمتوغّل في علم ما دراسة شخص ملك أقاليد الشّيء، متى ما أراد ولج، ومتى ما أراد أنتج.
ترتبط أسس الإنشاد بين بعضها البعض ارتباطاً يجعل الكلّ كتلة واحدة متكاملة الأجزاء، حيث أنّ الإنشاديّ ليجد نفسه بين أكثر من أساسين استناداً إلى مبادئ الفلسفة الإنشاديّة الحديثة، ولعلّ أبرز مثال على هذا الادّعاء هو ضرورة توفّــر تكوين شخصي للذي لديه موهبة ما، فالاستعدادات النّفسيّة لا تكفي وحدها، بل يجب أن تتعزّز وتتقوّى بالعلـم، ومتى ما حضر العلم حضرت معه الاحترافيّة، ومتى ما حضرت الاحترافيّة جلبت الانتباه بتمكّن صاحبها في ميدانه، أي حصول الاستقطاب، الذي هو اتّصال من أجل التّواصل.
لا يمكن أن نجد في الواقع السّليم أسس الإنشاد تسير بمفردها، وكأنّها جزر منعزلة عن بعضها البعض، إنّها علاقات تبادليّة اعتماداً على الواقع، الذي بدورنا نؤثّر فيه رفقة قوى أخرى، فيُصنع واقع متجدّد متغيّر.
في هذا التّأمّل نذهب إلى المصطلحات التّالية : الإلزام، التّرقّي، البوّابة، التّعزيز، السّبيل، الاقتضاء، ونحلّل كلّ مصطلح على حدى.
الانتقال من أساس استغلال التّكوين إلى استخدام الوظيفة يسمّى إلزاما، فالفرد ملزم بالعمل في هذه الحياة، بغضّ النّظر عن القطاع الذي ينتمي إليه، المهمّ أن يكون ذا قيمة أخلاقيّة خيّرة، وما فيها من إفادة ومنفعة للجماعة العالميّة، كما أنّ استخدام الوظيفة لصالح الدّعوة الفنيّة شيء يمكن أن يفيد الإنشاد كثيرا، فهو يمثّل ربحاً للوقت من جهة؛ أو بما يسمّى الوقت المضاعف، في نماذج مختلفة متنوّعة، فهناك وظائف يجد فيها الموظّف وقتا فارغاً لا يعمل فيه شيئا رغم أنّه متواجد في وظيفته، حتّى لا يُفهم أنّ الأمر متعلّق بالتّملّص من العمل، فما يمنع أن يكتب خلال الوقت شعراً إن كان شاعرا ؟، أو يلحّن نشيدا إن كان ملحّنا ؟، أو يكتب شيئا من كتاب إن كان كاتبا ومفكّرا ؟، أو يضع نظريّة يفيد بها الإنشاد إن كان فيلسوفا ؟، أو يخطّط لبرنامج ما إن كان معدّا ؟ ... الخ.
اختياره لما سيفعل يرجع له حسب ما يراه مناسبا له، وحسب الظّروف المحيطة به.
لكن يجب أن يعلم شيئا مهمّا للغاية، علاقة الإلزام تقوم على ملكيّة عناصرها، فالوقت المستثمر مثلا هو ملكه، لا يفعل فيه شيئا، أمّا إذا لم تكن العناصر ملكاً له؛ فيجب أخذ الموافقة من مالكها أو الموكلة إليه، مثل الآلات التي تكون في محلّ الوظيفة، خاصّة بها، فإنّ استعملها دون موافقة؛ فهو يستعمل شيئا لا يجوز له أن يستعمله، كالذي يستعمل خط الهاتف الخاص بالوظيفة ليجري اتّصالا مع آخرين، فيكلّم هذا وهذا، طالما أنّ الفاتورة لن يدفعها من جيبه.
يرتقي الإنشاديّ في علاقة تجمع أساس استخدام الوظيفــة المشغولة مع أســاس توظيــف الموهبة التي يتمتّع بهــا، والتي تُعتبر عطـــاء من الله لعبده، يكلّلها العامل العاطفيّ، بما يخفّف من المشــاقّ التي يحس بها إذا حُصر الأمــر بالواجــب فقط، والنّفـس البشريّـــة في أغلب الحالات تنفـــر من الشّيء الذي يُشعرهـا بالوجـــوب، لأنّه يوحي بالقيــد والمسؤوليّة، وتحب أن يكون لها هامش حريّة متّسع باستمرار، لهذا الدّافع تخدم الدّعوة الفنيّة، وإن أحبّت شيئا ذابت فيه لدرجة أنّها لا تقدّر الضّرر النّاتج عنه، فإذا زاد الشّيء عن حدّه انقلب إلى ضدّه، ولكن يجب الانتباه دائما قبل الوصول إلى درجة تذوب عندها الفكرة السّليمة.
هـذا من جهة؛ من جهة أخرى يجب عزل أثر التّرقّي عن الإخلاص، فالإنشاد دعوة في ثـوب فنّيّ، كلّها لوجــه الله ولو قابلها مال يُستعان به، فالاستعانة ما هي سوى صورة ماديّة منهجيّة لا تأخذ مطلقا صفة الهدف، بمعنى آخر لا يجوز للإنشاديّ أن ينشط في الدّعوة لمجرّد أنّه يشعر بالسّعادة، أو أنّه يحس بالرّاحة، بل لأنّه جنديّ من جنود الدّعوة، يتطلّب وجوده في الدّنيا الأخذ بيد النّاس إلى الصّراط المستقيم، لا أن يلبّي ما تمليه عليه عواطفه، فقد يشعر اليوم بالسّعادة فهو واقف على قدم وساق؛ وغدا ينتابه الضّجر فيترك كلّ شيء، ويبحث عمّا يعيد إليه سعادته المفقودة.
إذا كانت الاستعدادات الفرديّة والجماعيّة متوفّرة؛ فهي عبث في الحالات العامّة، ومهما كانت هذه الملكات فإنّها لا تساوي شيئا دون وضع مفاتيحها موضع اليد، والحصول على معرفة تمكّن صاحبها أو أصحابها منها.
العلم قوّة يملّكها الله لمن يشاء، والعلم بدوائره المعرفيّة المتداخلة لا يبدو إلاّ هياكل نورانيّة يتشكّل منها هذا الوجود، والفلسفة الإنشاديّة باعتبارها علماً أيضا؛ تبحث في هذه الهياكل، قصد تقويتها وزيادة تماسكها حفاظاً على الوجود.
يعــدّ توظيف المواهب أمراً ذا أولويّة، ولكنّ الموهبة طريق مظلم على جانبيه صعـاب كثيــرة، وعوائـق طبيعيّـة وغير طبيعيّة، إنّها مشاكل إنشاديّة لا يمكن تذليلها إلاّ بالمعرفة العلميّة، فالمعرفة سبيل أمان لأنّها طريق نحو الحقيقة، ومتى ما عُرفت خبايا الطّريق؛ كان الوصول إلى الهدف أسلم.
إذن فالموهبة تتعزّز بالعلم، الذي يرفعها عن العبث، ويمدّها بطاقة إيجابيّة محرّكة بدل الطّاقة السّلبيّة المبنيّة على الأوهام والخرافات، ويجعل من الإنشاديّ صاحب العاطفة الجيّاشة المتحمّس عقلاً متفتّحا، له قاعدة فكريّة صلبة يتحكّم في الوجود عوض أن يتحكّم فيه هذا الأخير.
على الإنشاديّ أن يعمل عملاً ينفع به نفسه، فيجعل لنفسه مدخولاً ماليّا يعينه على سدّ حاجياته وحاجيات من يعول، وقد تضطرّه الحاجة أن يعمل عملا لا يناسبه، أي لا يتناسب مع إمكانيّاته، فهو يشغله للضّرورة، ولو منّ الله عليه بآخر مناسب له تماما لما تردّد لحظة، أمّا الإمكانيّات موضع الحديث فسهل فسيح الأرجـاء من علـم وثقافـة وموهبـة وغيره ممّا يمكن اعتباره أدوات ذات إسهامات مفيدة، فإذا أحدث الله موهبة عند الإنشاديّ توافق مهنته أو وظيفته؛ فهي باب فتحه بكرمه تعالى، و المقام هذا يتطرّق إلى علاقة البوّابة التي تنقل الفرد من استخدام وظيفته استخداما تمليه الضّرورة والواجب؛ إلى توظيف موهبة ملّكها الله له.
هـو باب من أبواب النّجـاح، ما دامت هنـاك عاطفة إيجابيّة تجاه عمل معيّن، فما المانع من توظيفها في عمل مأجـور ؟، و ما دام هذا العمل عملاً جائزاً شرعاً يقدّم خدمة للجماعة العالميّة، فإنّه سيتقوّى بهذه العاطفة، و يكتسب شحنة طاقة إضافيّة، بأن جعل ما تشتهيه نفسه يخدم ما يمليه عقله وقلبه.
و كما يكون التّرقّي علاقة تبادليّة من الاستخدام إلى التّوظيف؛ يكون السّبيل في اتّجاه معاكس، أي الانتقال من توظيف الموهبة إلى استخدام الوظيفة التي يقتات منها الإنشاديّ، فحبّ الشّيء وإيجاد متعة في عمله وبلوغ نشوة عارمة وسعادة لا توصف؛ إنّما هو خيال في خيال، و اتّباع هوى، فأين الشّيء الذي يضمن لنا دخلا ماديّا نقضي به حاجياتنا المختلفة من مأكل ومشرب و ملبس ومسكن .... ؟.
للإنشاديّ متطلّبات وضرورات يجب أن يوفّرها له ولأسرته البيولوجيّة، توفيراً من أصل طيّب، فهو من جهة يكسب ما يساعده على كريم العيش، و يتجاوز به الأزمات والفتن؛ و من جهة أخرى يقدّم خدمة للجماعة العالميّة، بتأديته واجباً نحوها، و دوراً فيها لا يقلّ أهميّة عن أدوار إنشاديّين آخرين.
تخضع المهنة فيما تخضع للإحتياجات التي تحدّدها الجماعة العالميّة، في ضوء ما يرضاه الله لعباده، و عليه فقد تلعب بعض المهن دورا استراتيجيّا، في العالم، بحكم ما تمثّله من مفاصل للجسم العالميّ، و أعضاء حيويّة له.
و كما تظهر مهن جديدة أو تتدعّم؛ تتقلّص فاعليّة مهن أخرى أو تنعدم فتختفي، بناء على الواقع المتغيّر، الذي هو تجسيد لعالم الأفكار.
يقع الفرق بين الاقتضاء والتّعزيز في عنصر الانفتاح، فانتقال الإنشاديّ من أساس التّوظيف إلى أساس الاستغلال شيء محصور بين الموهبة والعلم، أمّا الاقتضاء فهو الانطلاق من كلّ أساس إلى أساس العلم، لأنّ كلّ أساس من الأسس الخمسة للإنشاد؛ إلاّ ويحتاج الإنشاديّ إلى العلم لدعمه أو تقويته أو الحفاظ عليه ... الخ.
فالعلم يحتاج لنفسه حتّى يقوّي بعضه بعضا، و ميدان معرفيّ واحد ينكر ميادين معرفيّة أخرى أو يهمّشها بدعوى أنّها غير ضروريّة أو غير مهمّة؛ لا يمكن أن نعدّه سوى ضرباً من ضروب الجهل.
ما نفعل بالرّياضيّات إذا أنكرت أو همّشت الفيزياء ؟، أو الوراثة ؟، أو البيئة ؟، أو الفلسفة ؟، أو التّاريخ ؟ .... فالعلم دوائر معرفيّة متداخلة، لاحظ العبارة جيّدا : «دوائر معرفيّة متداخلة»، لا يمكن فصل أجزائه إلاّ ليسهل على العقل تناولها، أمّا نكران بعضه أو تهميشه تحت غطاء عقمه فجهل متعمّد، و لا نتكلّم هنا عن العلوم الضّارة التي لا ينبغي التّطلّع إليها كالسّحر الأسود على سبيل المثال.
لا يمكن التّقدّم في وظيفة الإنشاديّ ومهنته ما دام لا يلقي بالاً للعلم، فقد يدمّر عمله بحسن نيّة، لا لشيء سوى لأنّه لم يهضم فكرة التّحكّم في الشّيء، و كيف تكون عمليّة التّحكّم إذا غاب المفتاح أو غُيّب ؟؟؟، و كيف تصل إلى مكان إذا لم تسلك الطّريق الموصل إليه ؟، طريقا جغرافيّا أو معنويّا أو شيئاً آخر ؟؟؟.
هذا التّأمّل محاولة إظهار للمرونة التي تتميّز بها أسس الإنشاد، و مهما بلغت عمليّة الإظهار من درجة؛ فإنّها قد تكون عاجزة عن بلوغ الحدّ الأعلى من الإظهار، فالتّشابك بين الأسس ما هو إلاّ دليل على تعقيد الوجود وتداخل الدّوائر المعرفيّة التي تحكمه.
أشكاله
وكان يتخلل الإنشاد الديني كثير من الحوارات الغنائية بين «المنشد الأصلي» وبين مجموعة المنشدين من خلفه، وكان المنشد يتوسط الحلقة، ويلتف من حوله مجموعة «السنيدة» بعد ذلك. وكان المنشد يختار مقطعًا من القصيدة أو جملة يجعلها محورًا تدور حولها كل الردود من «السنيدة»، فيرددونها وراءه ثم يعودون إليها بعد المنشد. وكانت الوصلة الأولى يختار لها الشيخ المنشد مقامًا موسيقيًّا معينًا مثل «الراست» مثلاً أو البياتي، أو الحجاز، وغيرها، ثم يبدأ المنشد الوصلة بإبراز مواهبه في الأداء، وبراعته في التنقل بين المقام الأصلي ومشتقاته، وقدرته على إبراز الحليات والزخارف اللحنية، ثم يقوم المنشدون بعد ذلك بترديد المقطع أو الجملة المحورية التي بدأ بها القصيدة.
ثم تأتي الوصلة الثانية فيختار لها مقامًا موسيقيًّا آخر حتى ينوع في المقامات، وحتى لا يمل السامعون ويفعل ما فعله في الوصلة الأولى.
وكان الإنشاد الديني في هذه الفترة يُغنَّى بدون مصاحبة آلية اللهم إلا في استخدام نقر المسبحة على كوب من الماء ليحدث رنينًا جذابًا. ثم تطور بعد فترة وجيزة ليصبح فنًّا له أصوله وأشكاله، فبداء يعتمد على الجمل اللحنية المبتكرة، وكذلك استخدام «اللزمات الموسيقية» والإيقاعات التي تناسب روح القصيدة. فتكونت الفرق الموسيقية المصاحبة «للمنشد»، وكانت تسمى آنذاك «بالتخت» أو بالخماسي الموسيقي والذي يعتمد العود والقانون والناي والكمان والإيقاع. وكان المنشد يتوسط المنصة وحوله بشكل دائري الموسيقيين وخلفهم المنشدين.
انتقل الإنشاد من الارتجال والتطريب إلى التعبير والتأثير، فضلاً عن استحداث جمل تسمى «اللزمات» وإيقاعات متنوعة وجمل حوارية بين الآلات بعضها وبعض وبين المنشدين، وتكوَّنت فرق خاصة بأداء هذا اللون تسمى «فرق الموسيقى العربية» التي تتناول التراث الموسيقي والغنائي بأشكال وقوالب جديدة.
واستُحْدِث بعد ذلك لون هو وليد تجربة القصائد والأناشيد هو الدعاء الديني، وكان الدعاء الديني يُغنَّى بالفصحى أو بالعامية، ولا يزيد عن خمس دقائق ليكون جرعة روحية مكثفة ذات موضوع واحد.
حتى ظهر لون جديد يسمى بالغناء الديني الشعبي وهو فن يعتمد على دراما القصة في شكل غنائي يشبه الملحمة يحكي فيها المنشد قصص الأبطال التاريخيين أو يمدح رسول اللهﷺ ويروي سيرته. ومن أبرز من أدى هذا اللون الدرامي من المشايخ الشيخ محمد عبد الهادي وكذا الشيخ عبد الرحيم دويدار، والشيخة هنيَّات شعبان، الشيخة سعيدة عبد الرحيم.
أشهر المنشدين
برز العديد من المنشدين في القرن العشرين ففي مصر برز الشيخ طه الفشني والشيخ النقشبندي وحاليا الشيخ أحمد عبد الفتاح الأطروني موسيقار الإنشاد الديني وغيرهم. أما في سوريا فيعتبر المنشد الراحل توفيق المنجد أهم من ظهر في هذا المجال وهو من منشدي دمشق، مع وجود أسماء كبيرة مثل المنشد فؤاد الخنطوماني والمنشد صبري مدلل في حلب وكذلك المنشد منذر السرميني أبو الجود والمنشد محمد أبو راتب وغيرهم. ومن الأسماء الأخرى في دمشق برز في السبعينات اسم المنشد حمزة شكور الذي انضمت فرقته إلى رابطة المنشدين بدمشق التي أسسها توفيق المنجد.والمنشد موفق أحمد أبو شعر الحسيني الذي كان يعود نسبه للحبيب المصطفى وجاء من بعده أبنائه الستة الذين يعرفون بفرقة الإخوة أبو شعر رابطة أبي أيوب الأنصاري ومن العراق الشيخ حمزه الزغير وياسين الرميثي وعبد الرضا الرادود وجاسم الطويرجاوي ومهدي الأموي وعزيز الكلكاوي وباسم الكربلائي وجليل الكربلائي وأبو بشير النجفي وغيرهم المئات من العراقيين والعرب بل وحتى في العالم الإسلامي.
مواقع الإنشاد
https://web.archive.org/web/20160824161513/http://www.atyaaf.sa/ صحيفة أطياف الإلكترونية للإعلام الهادف
https://web.archive.org/web/20130121101813/http://alafasy.me/index.html
https://web.archive.org/web/20170524230609/http://www.mostafaaljaafary.com/
https://web.archive.org/web/20110923092731/http://yahyahawwa.com/
مراجع
- كتاب "الأغاني" لأبي فرج الأصفهاني
- "عصر المأمون" للدكتور فريد رفاعي
- [د. محمد عمران، "الثابت والمتغير في الإنشاد الديني. دراسة في الموسيقى الشعبية المصرية"، الناشر: سلسلة الدراسات الشعبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة.]
- نسخة محفوظة 22 يناير 2008 على موقع واي باك مشين.
- وأصبح كذلك بمختلف الأنواع ويخدم القضايا العامة وله مواقع على الويب وهي إنشادكُم وبسملة وكذلك للنشيد مسابقات كمنشد الشارقة وسما الإنشاد إلخ الإنشاد الديني يحقق قفزة نوعية ويبهر المشاهد العربي نسخة محفوظة 07 سبتمبر 2009 على موقع واي باك مشين. [وصلة مكسورة]
- جهاز أنسام الصباح للتربية الفنية، أوراق من المكتبة الإنشاديّة، مؤرشف من الأصل في 14 نوفمبر 2021.
- بوابة علم الاجتماع
- بوابة إعلام
- بوابة الأديان
- بوابة موسيقى
- بوابة فلسفة