دوكخا

تعد الدوكخا أو الدوكها[1] (تُلفظ: دوكَّا) (بالبالية وبالسنسكريتية: दुक्ख، وبالتبتية: སྡུག་བསྔལ་، أو «إسدوغ بييسنغال») مفهوماً مهماً في البوذية، وتتم ترجمتها عادة إلى «المعاناة»، أو «الألم»، أو «عدم لإرضاء»، أو «التوتر»[2][3][4][5]، وتشير إلى الإيلام وعدم الإرضاء الجوهريين في الحياة الدنيوية، كما تُعتبر أولى الحقائق النبيلة الأربع، وتم العثور على هذا المصطلح أيضاً في النصوص الهندوسية، كالأبانيشاد، ضمن مناقشات الموكشا؛ أي التحرر الروحي.[6][7]

أصل الكلمة ومعناها

يتواجد مصطلح دوكخا في الأدب الهندي القديم، ويعبّر عن كل ما هو مُقلق، أو غير مريح، أو مزعج، أو صعب، أو مؤلم أو محزن، كما يمثّل كمفهوم في الأديان الهندية طبيعة الحياة التي تتضمن بالفطرة البغض، أو المعاناة، أو الألم، أو الحزن، أو المِحن، أو الكرب، أو التعاسة.[8][9]

إذ لا يقابل مصطلح دوكخا ترجمة وحيدةً في الإنكليزية، وإنما يجسّد جوانب عديدة من التجارب البشرية غير السارّة، وهو يُعاكس كلمة سوخا (sukha) التي تعني «السعادة»، أو «الراحة» أو «الطمأنينة».[8][9]

ويتم تفسير هذا المصطلح عادةً على أنه اشتقاق من مصطلح «فجوة في محور العجلة» في اللغة الآرية الهندية، مشيراً إلى فجوة لا تتوسط محور العجلة، فتؤدي إلى رحلة وعرة وغير مريحة، فحسب وينثروب سارجنت:[10]

«لقد كان الآريون القدماء، الذين قدِموا باللغة السنسكريتية إلى الهند، بدويين يربّون الأحصنة والماشية، ويسافرون على متن مركبات تجرها الأحصنة أو الثيران، وتشير البوادئ سو (su) و دَس (dus) إلى الصالح والطالح على التوالي، وقد عنت كلمة خا (kha) "فجوة" أساساً، وخصوصاً في محور عجلة إحدى المركبات الآرية، رغم أنها أشارت لاحقاً في السنسكريتية إلى "السماء"، أو "السماء الصافية" أو "الفضاء"، وبالمحصلة أشارت كلمة سوخا أساساً إلى "وجود فجوة جيدة في محور العجلة"، بينما عنت دوكخا "وجود فجوة رديئة في محور العجلة" فانطوت على عدم الراحة.[11]»

بينما يشرح مؤلف ومعلم الفيباسانا الأمريكي جوزيف غولدستين (Joseph Goldstein) أصل مصطلح دوكخا كما يلي: «تتألف كلمة دوكخا من السابقة دو والجذر خا، إذ تعني دو «سيء» أو «صعب»، بينما تعني خا «فارغ»، وتشير الأخيرة هنا إلى العديد من الأمور، بعضها خاص والآخر أكثر عمومية، فتشير إحدى المعاني الخاصة إلى الفجوة الفارغة في محور عجلة ما، فإذا لم يتوافق المحور تماماً مع الفجوة المركزية، ستتعثر المركبة بمسيرها، وهو مثال جيد عن الرحلة عبر السامسارا.»[12]

ولكن كان لمونيير مونيير-ويليامز (Monier Monier-Williams) رأي آخر، فأشار إلى أن الجذور الحقيقية لمصطلح دوكخا في لغة البالي تعود للكلمات السنسكريتية: السابقة دَس (-दुस्) أي «سيء» + سثا (स्था) أي «فعل الثبات أو التحمل»، وأدت التغيرات الصوتية المنتظمة في تطور السنسكريتية إلى اللغات البراكريتية المختلفة، إلى تحوّل دَس-سثا إلى دوهكخا، وأخيراً إلى دوكخا.

البوذية

يستخدم المترجمون المعاصرون للنصوص البوذية كلمات إنكليزية متنوعة لإيضاح جوانب الدوكخا، فقام المترجمون الغربيون الأوائل للنصوص البوذية (قبل سبعينيات القرن العشرين) عادةً بنقل مصطلح دوكخا من لغة البالي إلى «المعاناة» في الإنكليزية.

بينما أكّد المترجمون التاليون على أن كلمة «معاناة» محدودة جداً في التعبير عن المصطلح دوكخا، وفضّلوا إما إبقاء المصطلح دون ترجمة[13][14][15][16][17] أو توضيح ترجمته أكثر بمصطلحات مثل «قلق»، أو «كرب»، أو «إحباط»، أو «اضطراب»، أو «عدم الإرضاء»، الخ.[18][19][20]

كما استخدم العديد من المعلمين، والعلّامين، والمترجمين المعاصرين مصطلح «عدم الإرضاء» للتأكيد على أكثر جوانب الدوكخا دقةً وحذقاً وتنقسم الدوكخا في نصوص السوترا البوذية إلى ثلاث فئات:

  • دوكخا-دوكخا، أي دوكخا التجارب المؤلمة، وتتضمن المعانيات الجسدية والذهنية للولادة، والشيخوخة، والمرض والموت، وكذلك الكرب الناجم عما هو غير مرغوب.
  • فيباريناما-دوكخا، أي دوكخا تحوّل التجارب السارّة أو السعيدة إلى أخرى غير سارّة عندما تنقطع الأسباب أو الشروط التي حققت الأولى.[21][22]
  • سانخارا-دوكخا، أي دوكخا التجربة المشروطة، وتتضمن «عدم إرضاء أساسي يعمّ جميع الوجود، وكل أشكال الحياة، لأنها قيد التغير وزائلة، ولا تمتلك جوهراً باطنياً»، وبهذا المستوى، يشير المصطلح إلى قلة الرضا، وهو شعور بأن الأشياء تفشل في ملاقاة التوقعات أو المعايير المطلوبة دوماً.

وتلخّص نصوص السوترا المختلفة كيف توصَف «الحياة الدنيوية» بأنها دوكخا، بدءاً من السامسارا، أي العملية المستمرة للموت والولادة من جديد، بذاتها:

  1. الولادة دوكخا، والشيخوخة دوكخا، والمرض دوكخا، وكذلك الموت دوكخا،
  2. الأسى، والرثاء، والألم، والحزن، واليأس جميعاً دوكخا،
  3. الارتباط مع غير المحبوب دوكخا، والانفصال عن المحبوب دوكخا،
  4. عدم الحصول على المبتغى دوكخا،
  5. وختاماً، السكاندا الخمسة دوكخا.

وتعد الدوكخا إحدى علامات الوجود الثلاث، وهي بالإضافة إلى الدوكخا (المعاناة): أناتا "anatta" (اللاذات)، وأنيتشا أو أنيتيا "anicca" (المؤقتية).[ويب 1]

ويؤكد التقليد البوذي على أهمية تطوير بصيرة في طبيعة الدوكخا، والظروف التي تسببها، وكيف يمكن التغلب عليها، وتمت صياغة هذه العملية في تعاليم الحقائق النبيلة الأربع.

الهندوسية

يرجح الأدب الهندوسي أن أقدم نصوص الأبانشيد –البريهدارانياكا (Bṛhadāraṇyaka Upaniṣad) والتشاندوغيا (Chāndogya Upaniṣad)– قد سبقت مجيء البوذية، وفي هذه النصوص الهندوسية، تظهر الكلمة السنسكريتية دوكخا بمعنى «المعاناة، والأسى، والمِحن»، وفي سياق السعي الروحي والتحرر من خلال معرفة الأتمان (الروح أو الذات).[6][7][23]

عربية سنسكريتية
طالما ما نزال حيث نحن، يجب علينا التعرف عليها (الأتمان).].
فإن لم تعرفها، عظيم سيكون هلاكك.
إن الذين عرفوها سيُخلَّدون..
أما البقية لن يلاقيهم سوى العناء.[6]
ihaiva santo 'tha vidmas tad vayaṃ na ced avedir mahatī vinaṣṭiḥ
ye tad vidur amṛtās te bhavanty athetare duḥkham evāpiyanti
[ويب 2]

كما ينص المقطع 7.26.2 من التشاندوغيا أباشيناد على ما يلي:

عربية سنسكريتية

عندما يتبصّر المرء (روحه) بحق، [24]
فإنه لا يبصر موتاً أو سقماً أو محنة.[ملاحظة 1]
عندما يتبصر المرء بحق،
فإنه يبصر كل شيء، ويظفر بكل شيء، كلياً.[26][ملاحظة 2]

na paśyo mṛtyuṃ paśyati na rogaṃ nota duḥkhatām
sarvaṃ ha paśyaḥ paśyati sarvam āpnoti sarvaśaḥ
[ويب 3]

يظهر مفهوم الأسى والمعاناة، ومعرفة الذات كطريقة للتغلب عليها، مع مصطلحات أخرى على نطاق واسع في نصوص الأبانيشاد السابقة للبوذية،[27] كما يظهر مصطلح دوكخا في العديد من نصوص الأبانيشاد المتوسطة ولاحقاً التالية للبوذية، كما في المقطع 6.20 من الشويتاشواتارا أبانيشاد[28] وكذلك ما ورد في البهاغافاد غيتا (Bhagavada Gita)، وجميعاً ضمن سياق الموكشا.[29]

كما يظهر هذا المصطلح أيضاً في نصوص السوترا الأساسية للمدارس الست للفلسفة الهندوسية، كما في السطور الأولى من نص السامخياكاريكا (Samkhya karika) من مدرسة السامخيا.[30][31]

مقارنة بين البوذية والهندوسية

تؤكد كل من البوذية والهندوسية على القدرة على التغلب على الدوكخا من خلال تطوير الاستيعاب، ولكنهما يختلفان كثيراً في طبيعة ذلك الاستيعاب، إذ تؤكد الهندوسية على استعياب وتقبل الأتمان (الذات أو الروح) والبراهمان، بينما تؤكد البوذية على استعياب وتقبل الأناتا (الأناتمان أي اللاذات أو اللاروح)، إذ يناقش كل منهما طرق التحرر من الدوكخا.[32][33]

انظر أيضًا

ملاحظات

  1. يُترجم ماكس مولر «Duḥkhatām» في هذا المقطع على أنها «ألم».[25]
  2. يُمكن مقارنة هذا القول بنص «Dhammacakkappavattana Sutta» (نص ساميوتا نيكايا رقم 56.11) من شريعة بالي حيث اعتبر كل من المرض والموت كأمثلة على الدوكخا.

مراجع

  1. بيرزين, ألكسندر، "الحقائق الأربع النبيلة: نظرة عامة"، Study Buddhism، مؤرشف من الأصل في 19 نوفمبر 2018، اطلع عليه بتاريخ 19 نوفمبر 2018. {{استشهاد ويب}}: غير مسموح بالترميز المائل أو الغامق في: |ناشر= (مساعدة)
  2. Malcolm Huxter (2016)، Healing the Heart and Mind with Mindfulness: Ancient Path, Present Moment، Routledge، ص. 10، ISBN 978-1-317-50540-2، مؤرشف من الأصل في 26 مايو 2020., Quote: " dukkha (unsatisfactoriness or suffering) (....) In the Introduction I wrote that dukkha is probably best understood as unsatisfactoriness."
  3. Peter Harvey (2015)، Steven M. Emmanuel (المحرر)، A Companion to Buddhist Philosophy، John Wiley & Sons، ص. 26–31، ISBN 978-1-119-14466-3، مؤرشف من الأصل في 15 ديسمبر 2019.
  4. Carol Anderson (2013)، Pain and Its Ending: The Four Noble Truths in the Theravada Buddhist Canon، Routledge، ص. 1, 22 with note 4، ISBN 978-1-136-81332-0، مؤرشف من الأصل في 11 أبريل 2020., Quote: "(...) the three characteristics of samsara/sankhara (the realm of rebirth): anicca (impermance), dukkha (pain) and anatta (no-self)."
  5. Anuradha Sutta: To Anuradha نسخة محفوظة 26 مارس 2018 على موقع واي باك مشين.
  6. Brihadaranyaka Upanishad 4 April 2014, trans. Patrick Olivelle (1996), p. 66.
  7. Paul Deussen (1980)، Sixty Upaniṣads of the Veda, Vol. 1، Motilal Banarsidass (Reprinted)، ص. 482–485, 497، ISBN 978-81-208-1468-4، مؤرشف من الأصل في 21 ديسمبر 2019.
  8. Monier-Williams 1899، صفحة 483.
  9. Thomas William Rhys Davids؛ William Stede (1921)، Pali-English Dictionary، Motilal Banarsidass، ص. 324–325، ISBN 978-81-208-1144-7، مؤرشف من الأصل في 24 ديسمبر 2019.
  10. Sargeant 2009، صفحة 303.
  11. Goldstein 2013، صفحة 289.
  12. Monier-Williams 1899، صفحة 483, entry note: "according to grammarians properly written dush-kha and said to be from dus and kha [cf. su-khá]; but more probably a Prākritized form for duḥ-stha, q.v."
  13. Dalai Lama 1998، صفحة 38.
  14. Gethin 1998، صفحة 61.
  15. Smith & Novak 2009، Kindle location 2769.
  16. Keown 2000، Kindle Locations 932-934.
  17. Bhikkhu Bodhi 2011، صفحة 6.
  18. Walpola Rahula 2007، Kindle locations 524-528.
  19. Prebish 1993.
  20. Keown 2003.
  21. Dhammacakkappavattana Sutta: Setting the Wheel of Dhamma in Motion نسخة محفوظة 10 سبتمبر 2018 على موقع واي باك مشين.
  22. https://www.accesstoinsight.org/tipitaka/sn/sn22/sn22.086.than.html bottom "نسخة مؤرشفة"، مؤرشف من الأصل في 27 مايو 2020، اطلع عليه بتاريخ 7 أكتوبر 2018.{{استشهاد ويب}}: صيانة CS1: BOT: original-url status unknown (link)
  23. Robert Hume, Chandogya Upanishad, The Thirteen Principal Upanishads, Oxford University Press, pages 261-262 نسخة محفوظة 19 أكتوبر 2017 على موقع واي باك مشين.
  24. Paul Deussen (1980)، Sixty Upaniṣads of the Veda، Motilal Banarsidass (Reprinted)، ص. 188–189، ISBN 978-81-208-1468-4، مؤرشف من الأصل في 21 ديسمبر 2019.
  25. Chandogya Upanishad 7.26.2, Max Muller (Translator), Oxford University Press, page 124 نسخة محفوظة 23 أغسطس 2016 على موقع واي باك مشين.
  26. Chandogya Upanishad 7.26.2, trans. Patrick Olivelle (1996), p. 166.
  27. Paul Deussen (1980)، Sixty Upaniṣads of the Veda, Vol. 1، Motilal Banarsidass (Reprinted)، ص. 112, 161, 176, 198, 202–203, 235, 455, etc، ISBN 978-81-208-1468-4، مؤرشف من الأصل في 21 ديسمبر 2019.
  28. Paul Deussen (1980)، Sixty Upaniṣads of the Veda, Vol. 1، Motilal Banarsidass (Reprinted)، ص. 326، ISBN 978-81-208-1468-4، مؤرشف من الأصل في 21 ديسمبر 2019.
  29. Paul Deussen (1980)، Sixty Upaniṣads of the Veda, Vol. 1، Motilal Banarsidass (Reprinted)، ص. 305، ISBN 978-81-208-1468-4، مؤرشف من الأصل في 21 ديسمبر 2019.
  30. Original Sanskrit: Samkhya karika Compiled and indexed by Ferenc Ruzsa (2015), Sanskrit Documents Archives;
    Second Translation (Verse 1): Ferenc Ruzsa (1997), The triple suffering - A note on the Samkhya karika, Xth World Sanskrit Conference: Bangalore, University of Hungary, Budapest;
    Third Translation (all Verses): Samkhyakarika of Iswara Krishna John Davis (Translator), Trubner, London, University of Toronto Archives نسخة محفوظة 11 أبريل 2018 على موقع واي باك مشين.
  31. Samkhya karika by Iswara Krishna, Henry Colebrooke (Translator), Oxford University Press نسخة محفوظة 04 مارس 2016 على موقع واي باك مشين.
  32. Johannes Bronkhorst (2009)، Buddhist Teaching in India، Wisdom Publications، ص. 23–25، ISBN 978-0-86171-811-5، مؤرشف من الأصل في 17 ديسمبر 2019.
  33. Peter Harvey (2013)، The Selfless Mind: Personality, Consciousness and Nirvana in Early Buddhism، Routledge، ص. 34, 38، ISBN 978-1-136-78336-4، مؤرشف من الأصل في 15 ديسمبر 2019.
مراجع ويب
  1. The Four Noble Truths - By Bhikkhu Bodhi نسخة محفوظة 26 أغسطس 2018 على موقع واي باك مشين.
  2. Brihadaranyaka Upanishad, اطلع عليه بتاريخ 16 مايو 2016 من موقع "SanskritDocuments.Org" at Brihadaranyaka IV.iv.14, Original: इहैव सन्तोऽथ विद्मस्तद्वयं विद्मस् तद् वयम्न चेदवेदिर्महती विनष्टिः । ये तद्विदुरमृतास्ते भवन्त्य् अथेतरे दुःखमेवापियन्ति ॥ १४ ॥ نسخة محفوظة 01 أكتوبر 2018 على موقع واي باك مشين.
  3. Chandogya Upanishad 7,26.2. اطلع عليه بتاريخ 16 مايو 2016 من Wikisource छान्दोग्योपनिषद् ४ ॥ षड्विंशः खण्डः ॥, Quote: तदेष श्लोको न पश्यो मृत्युं पश्यति न रोगं नोत दुःखताँ सर्वँ ह पश्यः पश्यति सर्वमाप्नोति सर्वश इति । نسخة محفوظة 18 نوفمبر 2018 على موقع واي باك مشين.
  • بوابة البوذية
  • بوابة الهندوسية
This article is issued from Wikipedia. The text is licensed under Creative Commons - Attribution - Sharealike. Additional terms may apply for the media files.