المسيحية والأديان الأخرى
نظرة المسيحية إلى الأديان الأخرى
المسيحية واليهودية
العلاقة بين الديانة اليهودية والمسيحية معقدة ومتشعبة، فالمسيحية نشأت وأخذت مفاهيمها الأولية من بيئة يهودية صرفة؛[1] أما عن العلاقة الإنسانية بين الطرفين فقد اتسمت بالتقلب: بدأت مع اضطهاد اليهود للمسيحيين منذ أيام يسوع،[يوحنا 22/9] ودورهم في صلبه،[لوقا 2/22] ثم يذكر سفر أعمال الرسل اضطهاد اليهود للمسيحيين،[أعمال 1/8-3] ولاحقًا قام ذو نواس اليهودي بقتل مئات الألوف من المسيحيين في اليمن حسب بعض الباحثين،[2] لكنه وبدءًا من القرن الرابع أخذت المسيحية باضطهاد اليهودية، فطرد اليهود أولاً من الإسكندرية وعاشوا خلال الإمبراطورية البيزنطية خارج المدن الكبرى، وفرض عليهم بدءًا من القرن الحادي عشر التخصص بمهن معينة؛ ثم صدر عام 1492 مرسوم طردهم من إسبانيا في حال عدم اعتناقهم المسيحية، الأمر الذي كان فاتحة طرد اليهود من أوروبا برمتها: فطردوا من فيينا سنة 1441 وبافاريا 1442 وبروجيا 1485 وميلانو 1489 ومن توسكانا 1494، وأخذوا يتجهون نحو بولندا وروسيا والإمبراطورية العثمانية،[3] ورغم تحسن أوضاع اليهود مع استقلال هولندا الليبرالية وقيام الثورة الفرنسية إلا أن الحروب بين بولندا وأوكرانيا دمرت نحو ثلاثمائة تجمع يهودي وقتلت الكثير منهم في القرن السابع عشر، ورغم مبادئ الثورة الفرنسية لكن القرن الثامن عشر حمل الكثير من معاداة السامية لليهود،[4] ولا يمكن تحميل السلطات المسيحية أو الكنيسة مسؤولية جميع هذه المجازر، بيد أنها تقع على عاتق الحكومات والدول المسيحية.
أخذت العلاقة تتحسن بين اليهود والطوائف البروتستانتية في القرن التاسع عشر ومن ثم القرن العشرين وتوّج هذا التحسن بنشوء الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية ودعمهما لقيام إسرائيل لأسباب دينية؛[5][6] غير أن علاقات اليهود مع الكنيسة الكاثوليكية لم تتحسن حتى عهد البابا بولس السادس الذي برئ اليهود من تهمة لاحقتهم طويلاً وهي قتل يسوع صلبًا، وقد جاءت التبرئة استنادًا إلى إنجيل لوقا 48/23 وغيره من المواضع،[7] وجاء المجمع الفاتيكاني الثاني ليؤكد ما ذهب إليه البابا وطالب بعلاقات طبيعية مع اليهود:
وإن تكن سلطات اليهود وأتباعها هي التي حرضت على قتل المسيح، لا يمكن مع ذلك أن يعزى ما اقترف أثناء آلامه إلى كل اليهود اللذين كانوا يعيشون آنذاك دونما تمييز ولا إلى يهود اليوم. إن المسيح بمحبته الفائقة قدّم ذاته طوعًا للآلام والموت بسبب خطايا جميع الناس لكي يحصلوا جميعًا على الخلاص، وهذا ما تمسكت به الكنيسة ولا تزال. | ||
— المجمع الفاتيكاني الثاني، بيان في علاقات الكنيسة مع الأديان غير المسيحية[8] |
غير أن هذه الدعوات لن تدخل حيّز التطبيق إلا عقب عام 1993 إذ تمّ تبادل التمثيل الديبلوماسي بين الفاتيكان وإسرائيل، تلاها زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى القدس سنة 2000؛ ورغم هذا التحسن فلا تزال بعض الخلافات قائمة في العلاقات بين الكنيسة الكاثوليكية وإسرائيل حول ملكية بعض المقدسات المسيحية، وبعض النصوص الطقسية التي تقرأ عادة في أسبوع الآلام تصف اليهود بأوصاف مشبوهة؛ أما في يخص الكنيسة الأرثوذكسية، فبينما تقف الكنيسة الأرثوذكسية في الشرق بشدة ضد أي تحسن في العلاقات مع اليهود، أخذت مواقف هذه الكنيسة في الغرب بالانفتاح.
المسيحية والإسلام
يقيم القرآن نظامًا خاصًا لليهود والمسيحيين ويدعوهم أهل الكتاب، ويقر بوجودهم في المجتمع الإسلامي،[9] ويثني عليهم في مواضع عدة،[10] ويميز بشكل خاص المسيحيين، ويذكر صراحة أنهم الأكثر مودة للمسلمين.(10)[11]
مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ |
—آل عمران، 113 |
يرى بعض الفقهاء أن المسيحيين الذين لم يؤدوا الجزية ولم يدخلوا مع المسلمين في عهد تشملهم آيات القتال[12] في القرآن،[13] بيد أن عددًا آخر يرى أن هذه الآيات تشير غالبًا إلى قبيلة قريش ولا يمكن إلا أن تربط بظرفيتها التاريخية؛[14] ويكرم القرآن أيضًا الإنجيل ويعتبره كتابًا سماويًا منزلاً ويسميه «الكتاب المنير» و «هدى ونور» ؛[15] والإيمان بكونه منزل من عند الله يدخل في الركن الثالث من أركان الإيمان في دين الإسلام،[16] بيد أن المسلمين يعتقدون أن النسخة الحالية منه نسخة محرفة.[17]
أما يسوع في القرآن يدعى عيسى تعريبًا لاسمه اليوناني إيسوس، ويسمه كذلك المسيح، ويلازم القرآن وصفه بابن مريم.[18]؛ وهو نبي مؤتى بالبينات ومؤيد بالروح القدس،[19] وبشرت الملائكة به مريم بكلمة من الله ويدعى وجيهًا في الدنيا والآخرة،[20] وقد جاء بالحكمة،[21] ويذكر القرآن أيضًا عددًا من أعمال يسوع ومعجزاته الواردة في الأناجيل،[22] وأخرى مذكورة في الكتب الأبوكريفية،[23] ويشدد القرآن على وصف المسيح بالبشرية[24]، ويشبهه بآدم حيث خلقهما الله من تراب ثم نفخ فيهما من روحه،[25] وتشير سورة الأنبياء 91 إلى عذرية مريم وحملها بأمر الله دون وجود ذكر،[26] وتختم بالإعلان أن يسوع وأمه هما آية للعالمين؛ بيد أن القرآن يرفض ألوهية يسوع ويصفه بعبد الله،[27] ويرفض وصفه بابن الله،[28] كما ينكر صلبه أو مقتله،[29][30]، والإيمان بالمسيح يدخل في الركن الرابع من أركان الإيمان في دين الإسلام، ويعد الإسلام من أنكر نبوة المسيح أو تنقصه أو شتمه كافرًا.[31]
لقد سادت الألفة بين الإسلام والمسيحية زمنًا طويلاً،[32][33][34] لكن الاضطهادات التي عانى منها المسيحيون خلال بعض مراحل الدولة العباسية والدولة الفاطمية أثرت سلبًا في هذه العلاقة،[32] وكذلك الحروب الصليبية وقسوة المماليك في التعامل مع غير المسلمين. وفي العصور الحديثة احتلت الدول الكبرى المسيحية عددًا من الدول الإسلامية ما أدى إلى مزيد من التباعد؛ إلا أن حركات تقارب عديدة ظهرت خلال النصف الثاني للقرن العشرين وقد تكون مبادرة المجمع الفاتيكاني الثاني، واحدة من أهمها:
وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون معنا (أي مع المسيحيين) الإله الواحد الحي القيوم الرحيم الضابط الكل خالق السماء والأرض المكلم البشر؛ ويجتهدون (أي المسلمين) في أن يخضعوا بكليتهم لأوامر الله الخفية، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيبة خاطر الإيمان الإسلامي؛ وهم يجلون يسوع كنبي وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرمون مريم أمه العذراء كما أنهم يدعونها أحيانًا بتقوى؛ علاوة على ذلك أنهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كل البشر القائمين من الموت؛ ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقية ويؤدون العبادة لله لا سيما بالصلاة والزكاة والصوم. وإذا كانت قد نشأت، على مر القرون، منازعات وعداوات كثيرة بين المسيحيين والمسلمين، فالمجمع المقدس (أي الفاتيكاني الثاني) يحض الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بالخلاص إلى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعززوا معًا العدالة الاجتماعية والخيور الأخلاقية والسلام والحرية لفائدة جميع الناس.[35] |
المسيحية والأديان الأخرى
لم يحصل احتكاك مبكر بين المسيحية وديانات الشرق الأقصى، وعندما حصل هذا الاحتكاك خلال العصور الوسطى تزامنًا مع الحركات الاستكشافية في عصر النهضة تنوعت ردة الفعل بين الترحيب الشديد والإقبال على اعتناقها وبين الحظر والاضطهاد كما حصل في الصين،[36] في العصور الحديثة وسمت هذه العلاقة بالديبلوماسية وتبادل الزيارات بين القيادات الدينية على أعلى المستويات، وكان المجمع الفاتيكاني الثاني أشار إلى البوذية الهندوسية بوصفهما دينين يسعيان ”للاستشراق السامي“.[37]
أما في علاقة المسيحية بالأديان المندثرة، ففيما يخص أديان السكان الأصليين لأمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، فبالرغم من تقلص اعدادهم بشكل كبير نتيجة لفقر مناعتهم للأمراض التي جلبها المستعمرون، إلا أن البابا بيوس الثالث كان قد دعا بالمنشور البابوي ”الله الأسمى“ سنة 1537 إلى احترام السكان الأصليين وحقوقهم معلنًا أنهم بشر، على عكس ما كان سائدًا من اعتقاد، ودعا إلى الاهتمام بدعوتهم لاعتناق المسيحية.[38] أما فيما يخص الأديان القديمة فمن المعروف أن المسيحية قد عانت الاضطهادات على يد الديانة الرسمية في الإمبراطورية الرومانية ممثلة بعبادة القيصر.[39] فإلى جانب الاضطهادات المتبادلة حصلت تمازجات ثقافية عديدة، فقد أدى اعتناق الرومان والإغريق للمسيحية بأعداد كبيرة إلى انتقال بعض تقاليدهم الدينية إليها، على سبيل المثال إيقاد شمعة الشموع داخل الكنائس طلبا للشفاعة وفن رسم الأيقونات وتواريخ بعض الأعياد المسيحية كعيد ميلاد يسوع المسيح. كما أثرت الفلسفة الإغريقية بشكل كبير في المسيحية الغربية، كما يظهر من كتابات لاهوتييها الأوائل.[40]
يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أيضًا العادات من الديانات الفرعونية والبابلية القديمة والتي نفذت إلى الديانة اليهودية ومنها إلى المسيحية، كبناء الكنيسة الذي يشبه بناء هيكل سليمان المأخوذ بدوره عن المعابد المصرية،[41] وبعض هذه العادات نفذت لاحقًا إلى الإسلام أيضًا، كالوصايا العشر المقتبسة من كتاب الموتى الفرعوني المقدس، وظهرت بشكل أو آخر في الديانات الثلاثة،[42] إلى جانب إقامة أربعين الميت وغيرها.
مراجع
- قصة الحضارة ويل ديورانت، المجلد الثالث، الكتاب الخامس، الفصل الرابع، ص. 3921 نسخة محفوظة 17 يوليو 2017 على موقع واي باك مشين.
- كيف تطورت العلاقة بين اليهود والنصارى من العداوة إلى الصداقة؟ صيد الفوائد، 29 أيلول 2010. نسخة محفوظة 08 يوليو 2017 على موقع واي باك مشين.
- النزعات الأصولية، مرجع سابق، ص.22
- النزعات الأصولية، مرجع سابق، ص.41
- Episcopalians v. Jews on IQ (بالإنجليزية) نسخة محفوظة 05 يناير 2018 على موقع واي باك مشين.
- الكنيسة البروتستانتية وعلاقتها بالمسيحية الصهيونية الجزيرة، 12 ديسمبر 2006 نسخة محفوظة 14 يناير 2018 على موقع واي باك مشين.
- فيما يخص الاعتراضات على تبرئة اليهود من دم المسيح والردود عليها انظر تبرئة اليهود من دم المسيح بقلم: الأب الدكتور يوأنس لحظي جيد للأقباط الكاثوليك نسخة محفوظة 26 مايو 2020 على موقع واي باك مشين. "نسخة مؤرشفة"، مؤرشف من الأصل في 15 مارس 2009، اطلع عليه بتاريخ 5 سبتمبر 2019.
- انظر المجمع الفاتيكاني الثاني، في عصرنا بيان في علاقات الكنيسة مع الأديان غير المسيحية، المادة عدد 42 نسخة محفوظة 31 يناير 2012 على موقع واي باك مشين.
- الشريعة والحياة موقع الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، 20 أيلول 2010؛ انظر فقرة غير المسلمين ووجودهم في المجتمع الإسلامي نسخة محفوظة 16 نوفمبر 2008 على موقع واي باك مشين. [وصلة مكسورة]
- انظر البقرة 62، آل عمران 114، الحديد 27
- سورة المائدة 82
- سورة المائدة: 29.
- من قال إن الجهاد ليس من الدين فقد كذب! مجلة أوان، 20 أيلول 2010. [وصلة مكسورة] نسخة محفوظة 11 يونيو 2012 على موقع واي باك مشين.
- آيات القتال والنسخ والعموم والخصوص موقع الجابري 20 أيلول 2010، انظر بشكل خاص الفقرة الأخيرة. نسخة محفوظة 16 يوليو 2017 على موقع واي باك مشين.
- فيما يخصّ ما ذكر في القرآن حول الإنجيل انظر سورة النساء 136؛ وقد وصفه القرآن، بأنه "هدى ونور" في سورة المائدة 46، وبكونه "الكتاب المنير" في سورة فاطر.29
- مذكور في حديث جبريل الطويل في أركان الإيمان صحيح البخاري رقم 50، 53 صحيح مسلم رقم 8، 9.
- القرآن سورة البقرة: 79، صحيح البخاري 4485
- وذلك في جميع المواضع التي ذكر فيها لفظ عيسى وهي 15 موضعًا، والمواضع التي ذكر فيها المسيح بدون عيسى وهي 4 مواضع.
- البقرة 87، وهو عند المسلمين الملَك حبريل، انظر النحل: 102
- آل عمران 45
- الزخرف 63
- آل عمران 46، آل عمران50
- تكليم الناس في المهد في آل عمران 49 ترد في إنجيل الطفولة ليعقوب. وحادثة نفخ يسوع في طين متشكل على هيئة طير فطار، تذكر في إنجيل توما وسورة آل عمران.
- في آيات كثيرة منها المائدة: 75
- آل عمران 59
- معالم التنزيل، تفسير القرآن حسب البغوي، تفسير الأنبياء 91 "������+����+��+�����" نسخة محفوظة 20 مايو 2020 على موقع واي باك مشين.
- النساء: 171-172، المائدة: 17، 116-118، مريم 30، الزخرف 63-65
- النساء: 171، التوبة 30، مريم 34-35، سورة الإخلاص
- النساء 157
- المسيح بين الإسلام والمسيحية إسلام أون لاين، 29 أيلول 2010 نسخة محفوظة 20 يوليو 2017 على موقع واي باك مشين.
- لوامع الأنوار البهية- السفاريني (2/263)، تعظيم قدر الصلاة -المروزي ص(930)، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح - ابن تيمية (1/132)
- "المسيحيون: حالهم ومآلهم"، الأخبار اللبنانية، العدد 1226، 24 سبتمبر 2010، ص. 4–7، مؤرشف من الأصل في 23 نوفمبر 2010، اطلع عليه بتاريخ 27 مارس 2018.
- سوريا صنع دولة وولادة أمة، مرجع سابق، ص. 134 -140
- “الحضارة الإسلامية-المسيحية”.. قراءة في مفهوم جديد نسخة محفوظة 12 ديسمبر 2018 على موقع واي باك مشين.
- انظر المجمع الفاتيكاني الثاني في عصرنا بيان في علاقات الكنيسة مع الديانات غير المسيحية، المادة عدد 3 المخصصة للحديث عن الإسلام نسخة محفوظة 18 يناير 2012 على موقع واي باك مشين.
- المسيحية في الصين نسخة محفوظة 16 يونيو 2017 على موقع واي باك مشين.
- انظر دستور المجمع الفاتيكاني الثاني في عصرنا وهو بيان في علاقة المسيحية بالأديان الأخرى، المادتين 2و5 نسخة محفوظة 31 يناير 2012 على موقع واي باك مشين.
- الكنيسة والعلم، مرجع سابق، ص.546
- العبادات في الديانات القديمة، عبد الرزاق الموحي، دار الأوائل، طبعة أولى، دمشق 2004، ص.35
- Christianity and Greek Philosophy, R.J. Kilcullen. نسخة محفوظة 10 مايو 2012 على موقع واي باك مشين.
- العبادات في الديانة اليهودية، عبد الرزاق الموحي، دار الأوائل، طبعة أولى، دمشق 2004، ص.118
- العبادات في الديانة اليهودية، مرجع سابق، ص.119