حركة حداثية

الحداثة هي حركة فلسفية وفنية نشأت، إلى جانب الاتجاهات الثقافية والتغيرات، من تحولات واسعة النطاق وبعيدة المدى في العالم الغربي خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. من ضمن العوامل التي صاغت الحداثة تطور المجتمعات الصناعية الحديثة ونمو المدن السريع، ولاحقًا ردود الفعل على أهوال الحرب العالمية الأولى. رفضت الحداثة قطعية التفكير التنويري، على الرغم من أن العديد من الحداثيين رفضوا المعتقدات الدينية أيضًا.[2][3]

هانز هوفمان، «البوابة»، 1959-1960، مجموعة: متحف سولومون غاغينهايم. ولم يكن هوفمان معروفاً فقط كفنان ولكن أيضاً كمدرس للفن، وواضع نظريات حداثية في بلده ألمانيا، وبعد ذلك في الولايات المتحدة خلال عقد 1930 في نيويورك وكاليفورنيا. وقدم الحداثة والنظريات الحديثة لجيل جديد من فناني أمريكا. من خلال تعاليمه ومحاضراته في المدارس الفنية في قرية غرينتش وبروفينس، ماساشوستس، استطاع أن يوسع نطاق الحداثة في الولايات المتحدة.[1]

تضمنت الحداثة عمومًا نشاطات وابتكارات أولئك الذين شعروا أن الأشكال التقليدية من الفن والعمارة والأدب والإيمان الديني والفلسفة والتنظيم الاجتماعي ونشاطات الحياة اليومية والعلوم قد أصبحت غير ملائمة لمهامها، وقديمة في ظل البيئة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لعالم ناشئ صناعي بالكامل. شكلت توصيات الشاعر عزرا باوند في عام 1934 تحت شعار «جدّده!» حجر الأساس لنهج الحركة تجاه ما رأته ثقافةً قديمة عفا عليها الزمن. ومن هذا المنطلق، كان لجميع ابتكاراتها، مثل رواية سيل الوعي والموسيقى اللامقامية أو موسيقى الإثني عشر نغمة والرسم التقسيمي والفن التجريدي، أسلاف من القرن التاسع عشر.

من السمات البارزة للحداثة الوعي الذاتي والسخرية فيما يتعلق بالتقاليد الأدبية والاجتماعية، ما أدى أغلب الأحيان إلى تجارب على الشكل، إلى جانب استخدام التقنيات التي لفتت الانتباه إلى العمليات والمواد المستخدمة في تشكيل لوحة أو قصيدة أو بناء، وغيرها من الأعمال الفنية.[4][5][6] رفضت الحداثة إيديولوجيا الواقعية واستخدمت الأعمال القديمة عبر استعمال التكرار والتضمين وإعادة الكتابة والإيجاز والمراجعة والمحاكاة الساخرة.[7][8][9]

في حين يرى بعض العلماء أن الحداثة تستمر حتى القرن الحادي والعشرين، يرى آخرون أنها تتطور لتصبح حداثة متأخرة أو حداثة عليا. ما بعد الحداثة هو خروج عن الحداثة ودحض افتراضاتها الأساسية.[10][11][12]

تعريفها

يعرّف بعض المعلقين الحداثة على أنها طريقة تفكير، وهي واحدة أو أكثر من الخصائص المحددة فلسفيًا كالوعي الذاتي والمرجعية الذاتية، تمتد عبر كل المستجدات في الفنون والتخصصات. وأشيعهم، خاصة في الغرب، هم أولئك الذين ينظرون إليها كاتجاه فكري تقدمي من الناحية الاجتماعية يؤكد على قدرة البشر على إبداع بيئتهم وتطويرها وإعادة صياغتها بمساعدة التجريب العملي أو المعرفة العلمية أو التكنولوجيا.[13] من هذا المنظور، تشجع الحداثة على إعادة النظر في جميع جوانب الوجود، من التجارة إلى الفلسفة، بهدف إيجاد السبب الذي «يعيق» التقدم، واستبداله بطرق جديدة للوصول إلى نفس الغاية. يركز آخرون على الحداثة بصفتها تأملًا جماليًا. يسهل هذا الأمر النظر في ردود الفعل المحددة على استخدام التكنولوجيا في الحرب العالمية الأولى، والجوانب العدمية والمناهضة للتكنولوجيا في أعمال مفكرين وفنانين كثر والتي تمتد في الفترة بين عصر فريدريك نيتشه (1844-1900) وصمويل بيكيت (1906-1989).[14][15][16][17][18]

وفقًا لروجر غريفين، يمكن تعريف الحداثة بنظرة متطرفة على أنها مبادرة ثقافية واجتماعية وسياسية واسعة، تدعمها أخلاقيات «زمن الجديد». وفقًا لما كتبه غريفين: سعت الحداثة إلى إعادة «حس النظام السامي والغاية إلى العالم المعاصر، وبالتالي مواجهة التآكل (المتصور) «لناموس» شامل، أو «فسطاط مقدس»، تحت التأثير الممزق والمعلمن للحداثة». ولذلك، فإن الظواهر التي تبدو غير مترابطة ببعضها البعض مثل «التعبيرية والمستقبلية والمذهب الحيوي والتصوف والتحليل النفسي والعري وتحسين النسل والتخطيط الحضري الطوباوي والعمارة والرقص الحديث والبلشفية والقومية الرومانسية، وحتى مذهب التضحية بالذات (الانتحار الإيثاري) الذي أبقى على مذبحة الحرب العالمية الأولى، تُبدِي سببًا مشتركًا ومنشأ نفسيًا في الحرب ضد الانحطاط (المتصور)». إذ تمثل كلها عروضًا للوصول إلى «تجربة فوق شخصية للواقع»، يؤمن فيها الأفراد أنهم تساموا فوق الفناء، وأنهم توقفوا في النهاية عن كونهم ضحايا للتاريخ وأصبحوا عوضًا عن ذلك خالقين له.[19]

تاريخها الباكر

منشؤها

وفقًا لأحد النقاد، تطورت الحداثة من ثورة الرومانسية ضد آثار الثورة الصناعية والقيم البرجوازية: يؤكد غراف أن الدافع الأساسي للحداثة كان انتقاد النظام الاجتماعي البرجوازي ونظرته للعالم في القرن التاسع عشر... الحداثيين حاملين شغلة الرومانسية». بينما كان جاي إم تيرنر (1775-1851)، وهو أحد أعظم رسامي التصوير الطبيعي، عضوًا في الحركة الرومانسية بصفته رائدًا في دراسة النور واللون والجو، «استبق الانطباعيين الفرنسيين» ولذلك كانت الحداثة «كسرًا للصيغ التقليدية للتصوير، على الرغم من أنه، وعلى عكسهم، آمن بأن أعماله يجب أن تعبر دومًا عن مواضيع تاريخية أو أسطورية أو أدبية أو غيرها من المواضيع السردية».[20]

قوبلت الاتجاهات السائدة في بريطانيا الفيكتورية الصناعية منذ عام 1850، بمعارضة الشعراء والرسامين الإنجليز الذين أسسوا رابطة ما قبل الرفائيلية، نظرًا لمعارضتهم «المهارات التقنية دون إلهام». تأثروا بكتابات الناقد الفني جون راسكن (1819-1900)، الذي امتلك مشاعر قوية تجاه دور الفن في المساعدة على تحسين حياة الطبقات العاملة المدنية، في ظل التوسع السريع للمدن الصناعية في بريطانيا.[21] يصف الناقد الفني كليمنت غرينبيرغ رابطة ما قبل الرفائيلية بالحداثيين الأوائل: «كان الحداثيون الأوائل، من بين الجميع، هم ما قبل الرفائيلية (وحتى من سبقهم كالحداثيين الأوائل الباكرين والناصرى الألمان). بشرت ما قبل الرفائيلية في الواقع بظهور مانيه (1832-1883)، والذي بدأ معه الرسم الحداثي فعلًا. كانوا مستائين من طريقة ممارسة الرسم في زمنهم، معتبرين أن واقعيتها غير صادقة بما فيه الكفاية». كان للعقلانية أيضًا معارضون من الفلاسفة مثل سورين كيركغور (1813-1855) ولاحقًا فريدريك نيتشه (1844-1900)، وكان لكليهما تأثير هام على الوجودية والعدمية.[22]

ومع ذلك، استمرت الثورة الصناعية. شملت الابتكارات المؤثرة صناعات طاقة البخار وبالأخص تطور السكك الحديدية، الذي بدأ في بريطانيا في ثلاثينيات القرن العشرين، والتطورات اللاحقة في الفيزياء والهندسة والعمارة المرتبطة بهذا الأمر. كان أحد الإنجازات الهندسية في القرن التاسع عشر بناء قصر الكريستال، وهو قاعة معرض ضخمة مصنوعة من حديد الزهر والزجاج بُنيَت لأجل المعرض الكبير لعام 1851 في لندن. استُخدم الزجاج والحديد بنفس الأسلوب الأثري في بناء محطات السكك الحديدية الكبرى في لندن، مثل محطة بادنغتون (1854) ومحطة كينغز كروس (1889). أدت هذه التطورات التكنولوجية إلى بناء منشآت أخرى مثل جسر بروكلين (1883) وبرج إيفل (1889).[23] كسر هذا الأخير جميع القيود السابقة المتعلقة بطول الأجسام المصنوعة من قبل البشر. غيرت هذه المعجزات الهندسية البيئة المدنية وحياة الناس اليومية في القرن التاسع عشر تغييرًا جذريًا. تغيرت تجربة البشر مع الوقت نفسه، مع تطوير التلغراف الكهربائي عام 1837، وتبنيّ شركات السكك الحديدية البريطانية للتوقيت القياسي منذ عام 1845، وفي باقي أنحاء العالم عبر الخمسين سنة اللاحقة.[24]

على الرغم من استمرار التقدم التكنولوجي، تعرضت فكرة أن التاريخ والحضارة تقدميان بطبيعتهما وأن التقدم جيد دومًا لهجوم متزايد في القرن التاسع عشر. ظهرت الحجج التي زعمت أن قيم الفنانين وقيم المجتمع ليستا مختلفتين فحسب، بل أن قيم المجتمع معاكسة للتقدم، وأنه لا يستطيع المضي قدمًا بشكله الحالي. في وقت باكر من القرن، شكك الفيلسوف شوبنهاور (1788-1860) (العالم إرادة وفكرة، 1819) في التفاؤل السابق، وكان لأفكاره تأثير هام على المفكرين اللاحقين، ومنهم نيتشه. كان من أهم المفكرين في منتصف القرن التاسع عشر عالم الأحياء تشارلز داروين (1818-1883)، صاحب كتاب أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي (1859)، وعالم السياسة كارل ماركس (1818-1883)، صاحب كتاب رأس المال (1867). أضعفت نظرية داروين حول التطور عبر الاصطفاء الطبيعي اليقين الديني وفكرة تفرد الإنسان.[25] على وجه التحديد، ثبتت صعوبة توافق فكرة أن البشر مدفوعون بنفس الغرائز الموجودة لدى «الحيوانات الأدنى رتبة» مع فكرة الروحانية النبيلة. وجادل كارل ماركس بوجود تناقضات جوهرية في نظام الرأسمالية، وأن العمال وفقًا لها ليسوا أحرارًا.[26]

انظر أيضاً

ملاحظات

  1. Hans Hofmann biography. Retrieved 30 January 2009 [وصلة مكسورة] نسخة محفوظة 29 يناير 2013 على موقع واي باك مشين.
  2. Pericles Lewis, Modernism, Nationalism, and the Novel (مطبعة جامعة كامبريدج, 2000). pp. 38–39.
  3. "جيمس جويس's عوليس (رواية) is a comedy not divine, ending, like Dante's, in the vision of a God whose will is our peace, but human all-too-human...." Peter Faulkner, Modernism (Taylor & Francis, 1990). p. 60.
  4. Barth (1979) quotation:
    «The ground motive of modernism, Graff asserts, was criticism of the nineteenth-century bourgeois social order and its world view. Its artistic strategy was the self-conscious overturning of the conventions of bourgeois realism [...] the antirationalist, antirealist, antibourgeois program of modernism [...] the modernists, carrying the torch of romanticism, taught us that linearity, rationality, consciousness, cause and effect, naïve illusionism, transparent language, innocent anecdote, and middle-class moral conventions are not the whole story.»
  5. Graff (1973)
  6. Graff (1975)
  7. Eco (1990) p. 95 quote:
    «Each of the types of repetition that we have examined is not limited to the mass media but belongs by right to the entire history of artistic creativity; سرقة فكرية, quotation, parody, the ironic retake are typical of the entire artistic-literary tradition.
    Much art has been and is repetitive. The concept of absolute originality is a contemporary one, born with Romanticism; classical art was in vast measure serial, and the "modern" avant-garde (at the beginning of this century) challenged the Romantic idea of "creation from nothingness," with its techniques of كولاج, mustachios on the موناليزا, art about art, and so on.»
  8. Steiner (1998) pp. 489–490 quote:
    «(pp. 489–490) The Modernist movement which dominated art, music, letters during the first half of the century was, at critical points, a strategy of conservation, of custodianship. Stravinsky's genius developed through phases of recapitulation. He took from غيوم دو ماشو, كارلو غيزوالدو, كلاوديو مونتيفيردي. He mimed بيتر إليتش تشايكوفسكي and شارل جونو, the لودفيج فان بيتهوفن piano sonatas, the symphonies of جوزيف هايدن, the operas of جيوفاني باتيستا بيرغوليزي and ميخائيل غلينكا. He incorporated كلود ديبوسي and انتون فيبرن into his own idiom. In each instance the listener was meant to recognize the source, to grasp the intent of a transformation which left salient aspects of the original intact. The history of Picasso is marked by retrospection. The explicit variations on classical pastoral themes, the citations from and pastiches of رامبرانت, فرانثيسكو غويا, دييغو فيلاثكيث, Manet, are external products of a constant revision, a 'seeing again' in the light of technical and cultural shifts. Had we only Picasso's sculptures, graphics, and paintings, we could reconstruct a fair portion of the development of the arts from the حضارة مينوسية to بول سيزان. In 20th-century literature, the elements of reprise have been obsessive, and they have organized precisely those texts which at first seemed most revolutionary. الأرض اليباب, عوليس (رواية), Pound's Cantos are deliberate assemblages, in-gatherings of a cultural past felt to be in danger of dissolution. The long sequence of imitations, translations, masked quotations, and explicit historical paintings in روبرت لويل's History has carried the same technique into the 1970s. [...] In Modernism collage has been the representative device. The new, even at its most scandalous, has been set against an informing background and framework of tradition. Stravinsky, Picasso, Braque, ت. س. إليوت, جيمس جويس, عزرا باوند—the 'makers of the new'—have been neo-classics, often as observant of المرجعية الأدبية الغربية precedent as their 17th-century forebears.»
  9. Childs, Peter Modernism (Routledge, 2000). (ردمك 0-415-19647-7). p. 17. Accessed on 8 February 2009. نسخة محفوظة 3 يناير 2014 على موقع واي باك مشين. [وصلة مكسورة]
  10. "postmodernism: definition of postmodernism in Oxford dictionary (American English) (US)"، oxforddictionaries.com، مؤرشف من الأصل في 22 أغسطس 2016.
  11. Ruth Reichl, Cook's November 1989; American Heritage Dictionary's definition of "postmodern" نسخة محفوظة 15 يونيو 2018 على موقع واي باك مشين.
  12. Mura, Andrea (2012)، "The Symbolic Function of Transmodernity" (PDF)، Language and Psychoanalysis، 1 (1): 68–87، doi:10.7565/landp.2012.0005، مؤرشف من الأصل (PDF) في 08 أكتوبر 2015.
  13. "In the twentieth century, the social processes that bring this maelstrom into being, and keep it in a state of perpetual becoming, have come to be called 'modernization'. These world-historical processes have nourished an amazing variety of visions and ideas that aim to make men and women the subjects as well as the objects of modernization, to give them the power to change the world that is changing them, to make their way through the maelstrom and make it their own. Over the past century, these visions and values have come to be loosely grouped together under the name of 'modernism'." (Berman 1988, 16)
  14. Lee Oser, The Ethics of Modernism: Moral Ideas in Yeats, Eliot, Joyce, Woolf and Beckett (مطبعة جامعة كامبريدج, 2007)
  15. F.J. Marker & C.D. Innes, Modernism in European Drama: Ibsen, Stringdberg, Pirandello, Beckett
  16. Morag Shiach, "Situating Samuel Beckett", pp. 234–247 in The Cambridge Companion to the Modernist Novel (Cambridge University Press, 2007)
  17. Kathryne V. Lindberg, Reading Pound Reading: Modernism After Nietzsche (Oxford University Press, 1987)
  18. Pericles Lewis, The Cambridge Introduction to Modernism (Cambridge University Press, 2007). p. 21.
  19. Bar-On, Tamir (01 يناير 2007)، Where Have All the Fascists Gone? (باللغة الإنجليزية)، Ashgate Publishing, Ltd.، ISBN 9780754671541، مؤرشف من الأصل في 11 مارس 2020.
  20. "J.M.W. Turner"، مؤرشف من الأصل في 30 يناير 2010. {{استشهاد ويب}}: الوسيط غير المعروف |encyclopedia= تم تجاهله (مساعدة)
  21. The Bloomsbury Guide to English Literature, ed. Marion Wynne-Davies. New York: Prentice Hall, 1990
  22. Clement Greenberg, "Modern and Postmodern", William Dobell Memorial Lecture, Sydney, Australia, Oct 31, 1979, Arts 54, No.6 (February 1980) نسخة محفوظة 1 سبتمبر 2019 على موقع واي باك مشين.
  23. "LNER Encyclopedia: The Great Northern Railway: Kings Cross Station"، مؤرشف من الأصل في 29 أبريل 2015، اطلع عليه بتاريخ 19 نوفمبر 2013.
  24. Ian R. Bartky (January 1989). "The adoption of standard time". Technology and Culture 30 (1): 25–56.
  25. The Norton Anthology of English Literature, vol. 2 (7th edition). New York: Norton, 2000, pp. 1051–1052.
  26. Craig J. Calhoun (2002). Classical Sociological Theory. Oxford: Wiley-Blackwell, pp. 20–23.
  • بوابة فلسفة
  • بوابة فنون
This article is issued from Wikipedia. The text is licensed under Creative Commons - Attribution - Sharealike. Additional terms may apply for the media files.